شَكلت ثورات الرّبيع العربي محطة فارقة في مسار الشعوب العربية التي عانت سنوات من الظلم واضطهاد الحريات، بعيدا عن الحكم بنجاحها أو فشلها.. تبقى عبارة عن رد فعل شعبي ناتج عن وعي بغور التراجع والتخلف الذي وصلت له هاته الدول ..

هذا يقودنا نحو التساؤل عن سبب هاته الصحوة الشعبية، ومدى بؤرة التخلف التي فجرت هذا الوعي الشعبي وقادته نحو الثورة ..

إذا أردنا أن نقيس حجم التخلف الذي تعاني منه الأمة الإسلامية علينا أولا أن نضع مرجعا للقياس، هل نقيس هذا التخلف بمرجع المنافس أي الغرب أو بمرجعنا نحن أي وضعنا قبل قرون مضت..

كلا الشقين هنا يحتاج وقفة تأملية، ذلك أننا بالفعل نتخلف وبهوة شاسعة عن كلا المرجعين، سواء الغرب المتطور أو عن حضارتنا الإسلامية الغابرة، أي عن التجسيد الأمثل للشريعة الاسلامية، يخلط الكثير بشأن المقارنة مع السابق الحضاري، ويؤصل لضرورة العودة لذلك الزمن بأفكارنا وحتى سلوكاتنا ووسائلنا، ويغيب جانب التخلف المادي عن الغرب المتطور، والذي يستحيل للأدوات القديمة أن تنافسه أو حتى تفهم حيثياته..

قسَّم الدكتور عبد الكريم بكار في كتابه "نحو فهم أعمق" التخلف بشقيه الإسلامي أو كما سماه التخلف عن المنهج الرباني وكذلك الشق المادي.

وذكر في الشق الرباني حجم التدهور الذي مسَّ الأمة فيه فنلحظ انحرافات عن مفاهيم العقيدة إذ ولَّد الأمر عقيدة مشوشة ومنه خللا في المنجزات والأعمال.

الجهل المطبق بأحكام الدين والذي كان نتيجة تراكمات إقصائية له في ميادين التعليم والتربية، فقد تم تحجيم مادة التربية الإسلامية في دولٍ عدة، وتسليط الاضاءة بشكل متحيز فيبرز جانب سطحي على حساب جوانب أخرى مهمة، كذلك إهمال مسألة رقابة الالتزام كما هو حاصل في بريطانيا مع منتسبي المسيحية، حيث يجدر بالدول أن تضع أنظمة لمتابعة الملتزمين بمختلف أركان التشريع كالزكاة وغيرها من التشريعات الدالة على مدى التزام الشعوب كنوع من الإحصاء الذي تنبني عليه قوانين منظمة فيما بعد..

تغلب النزعة المادية وإهمال الحبل الإلهي الموصل بين الروح وخالقها مما تسبب في تغير معايير المدح والذم من تقي صالح، "كسيب" و" شاطر" وغيره ، وما هذا إلا نتيجة خاطئة في التصويب والتشخيص من البداية، أي أن النزعة الرأسمالية استفحلت بغير جانبها الذي ينبغي أن نستفيد منه ..

كذلك اختلال الترتيب الشرعي فتجد ترتيب غير صحيح في أولويات المسلم كأن تجد شعوب تقدم أهمية الأضحية والصيام على الصلاة، والاهتمام بالسنن والمندوبات وتجاهل الفروض والأساسيات.

إخفاقات ومضايقات بالجملة تطال العمل الدعوي على المستويين الداخلي والخارجي، سواء على مستوى القنصليات والروابط العالمية ومختلف الهيئات التي بات جل همها إثبات براءة الاسلام من مختلف العمليات الارهابية، أو عقد ندوات ذات مخرجات لا تتعدى الحبر الورقي، كذلك التقصير الداخلي بين المسلمين في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانتشار ثقافة الحريات المستمدة من الغرب..

ثم انتقل بنا نحو الشق المادي ليذكر لنا العديد من الأسباب التي أودت بالأمة لهذا التراجع حيث أن الهوة بيننا وبين الغرب آخذة في الاتساع وتقدر بعض الجهات حجم الهوة بالقول:

إذا كان دخل الدولة المتقدمة %2,5 وكان نمو الدول المتخلفة 5% سنويا فإن هذه الأخيرة تحتاج لردم الهوة الفاصلة  إلى ما لا يقل عن 150 سنة !

ومن ملامح هذا التخلف المادي هو استفحال الجهل وطغيان الأمية بشكل واسع على مستوى الدول الإسلامية حيث يوجد دول تزيد نسبة الأمية فيها عن 90% كاليمن الشمالية ومالي وبوركينافاسو وهناك دول تتراوح نسب الأمية بين 60% و 90% من بينها موريتانيا والمغرب وبنغلاديش وهناك من تتراوح بين 30% و%60 مثل تركيا، الجزائر، ماليزيا، أندونيسيا والبحرين .

هذا بالمقابل تتراوح نسب الأمية في أمريكا والاتحاد السوفياتي -سابقا- بـ 1% وأوروبا 3% .

متوسط الأمية في العالم الثالث 45%.

متوسط الأمية في العالم الاسلامي 58%.

هذا بغض النظر عن المضامين التي لا تكاد تكون أقل كارثية والتي تعتمد أساسا على  منهج التلقين والتكرار، وهشاشة المواد العلمية والتربوية فيها..

نبقى في خط العلم والتعليم تحديدا البحث العلمي، إن ما تنفقه الدول المتقدمة في البحث العلمي يضاهي ميزانيات دول بأكملها تشير بعض الدراسات إلى أن الدول المتقدمة صناعيا تنفق ما بين 2-4 %  من إجمالي إنتاجها القومي في توظيف البحث العلمي من أجل التنمية.

في حين أن الدول الإسلامية لا يتعدى ما تنفقه في هذا المجال 0.3% على ضخامة الدخول القومية في الدول الكبرى وضآلتها في الدول النامية.

هذا ما كان نتيجته ركود شبه تام في إنتاجية القطاع العلمي ما أورد منظومات هزيلة لا ترقى للتنافس العالمي..

وقد ولد لنا هذا الشح في ميزانية البحث العلمي إلى شح الموارد البشرية الفاعلة كالعلماء والتقنيين، كذلك إلى هجرة الأدمغة نحو الدول المتقدمة أين وجدت من التمويل والترف المعيشي ما يشكل إغراء يقع في مقابله استنفاذ واستغلال لهاته الطاقات  وافراغها بكلية في العالم الغربي ..

هذا ويتجسد التخلف في حجم الفقر والمرض ونسبة البطالة المرتفعة، الديون الخارجية وضغوطاتها على الدول النامية، رداءة وضعف التجهيزات في البنى الأساسية من اتصالات ومواصلات ومختلف القطاعات، ضعف كل من القطاعين الصناعي والزراعي وغيرها العديد من الاخفاقات المادية التي لا يسعنا التفصيل أو الإلمام بمجاميعها في هذا المقام..

قد يتبادر إلينا سؤال آخر، لماذا هذا التخلف ؟!، كيف حتى وصلنا لهاته النقطة من الإخفاقات المتراكمة ؟

إذا حاولنا البحث في الأسباب نجد أنها متجذرة  وغائرة، بداية من البعد التاريخي لهاته الدول ووصولا إلى  الوضع الراهن ..

فنجد في البعد التاريخي: أن سلسلة الإخفاقات بدأت فور الركود الكبير للدولة العثمانية في سلم التطور الإنتاجي قابله تطور سريع في الجانب الغربي، كذلك اجتماع النزاعات الداخلية مع الأطماع الخارجية التي أدت إلى مختلف الانقسامات، ثم أتت مرحلة الاستعمار المدمرة، أين سعت الدول الغربية إلي خلق مستعمرات تمتص منها المواد الأولية المساهمة في الإنتاج دون أدنى مقابل مادي،  وتبث في المقابل نوازع الجهل والتخلف، من حروب أهلية، وقمع وردع واستعباد ..

هاته الفترة كانت سبب مهما من أسباب خلق تلك الهوة بين الغرب والمسلمين.. أما في الوقت الراهن فقد تعددت وتنوعت الأشكال، بداية بالأنظمة الحاكمة التي زادت من اتساع الفجوة التي خلفها المستعمر من خلال إكمال مساره في بث نوازع الجهل وقمع الحريات والاستبداد والتكريس للفساد، حتى نصل للأسباب المتعلقة بالفرد المسلم نفسه من ضعف في الفاعلية، قلة الاكتراث بالوقت، ضعف المبادرات الفردية ونقصد بها اندفاع الأفراد نحو القيام بأعمال خيرية مساهمة في خلق الوعي، وخلق روح الإسهام في المجتمع، النمطية والتي غالبا ما تكون ناتجة عن فقر في النماذج والصور والقدوات المحركة وتكون بذلك نظرة أحادية ومتكررة لا إبداع فيها، وذلك قد يكون سببا في ولادة ما يسمى بمقاومة التغيير، فنجد أن المجموعة قد تحارب أي فكرة جديدة، أو بوادر حقيقية نحو التغيير، لأنهم غرقوا لأخمصهم في النمطية والتكرار وما وجدوا عليه آباءهم..

كل هذا خلق لنا أنظمة مجتمعية كاملة وراسخة تتسم باللامنطقية واللامنهجية واضطراب كبير في منهجية التفكير مدللة بذلك ما ذكرناه من تعود على سياق واحد تحول إلى عادات وتقاليد لا مساس فيها.

من الأسباب أيضا ضعف مثاقفة التساؤل، بل أصبح هذا الأخير صورة من الصور النادرة والتي تقمع في مهدها في غالبها، هذا بالضرورة يأخذنا لنتيجة بانعدام التفكير الجدلي الذي ينطلق أساسا من السؤال ثم إيجاد الجدلية ونقيضها وخلق آلية الجمع بينهما للخروج برأي في الأخير، ذلك أن الدخول في الجدلية يستلزم أبعاد ورؤى نقدية، الأمر الذي يكاد ينعدم هو الآخر ..

وما ذلك إلا منتوج أفرزته منظومة ترتكز أساسا على أسلوبها القهري والذي خلق ازدواجية في الشخصية وفقد الثقة بالنفس والشعور الدائم بالدونية واحتكار مساحات الإبداع، المنظومة التي تتغذى أساسا من نظامها الأول الذي لا يقل فسادا.

ونخلص من كل ما سبق أن بؤرة التخلف غائرة ومستفحلة في مختلف الميادين بداية بالعقيدة وانتهاء إلى أبسط المعاملات الفردية، الأمر الذي يقودنا إلى مرحلة ما بعد التشخيص ألا وهي محاولة خلق الحلول والسعي نحو تحقيقها بشتى الوسائل والطرق، وهو ما تصبو منصة عمران لتحقيقه من خلال المتابعة والإشراف على مشاريع تخصصية داعمة ومقومة لجهود الأفراد والمؤسسات للوصول بهم نحو مستويات إبداعية فاعلة للخروج من الأزمة ..