تعجبت ابنة الإمام مالك بن أنس من حال أبيها والإمام الشافعي، حين رأت منهما اختلاف الهمّة في ليلهم، فقد رأت أباها يقوم الليلة راكعا وساجدا، ورأت الإمام الشافعي يهم بكتابه وفكره فلا يبرحه تأملا وتهمهما ، حاله كحال من فارقت روحه نحلة جسده.. فسألت أباها عما لاحظته: فسأله عن سر تركه القيام ليلا فقال: كنت أتفكر في حديث رسول صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) فكرت فيه فاستخرجت منه 99 حكما وقلت حسبي هذا تيمنا بأسماء الله الحسنى.
فقال الإمام مالك: "والله ما بِتَّ فيه خيرٌ ممّا ِبتُّ أنا فيه"، ذلك أن ما بات فيه الإمام الشافعي فيه من الإفادة للأمة جمعاء، في حين اقتصرت فائدة الإمام مالك على نفسه.
إن التفكر هو حاضن الفكرة وفجر ميلادها، والفكرة هي نعومة الإنجازات والسلوكات والمعتقدات الأولى، فكل فكرة هي مشروع قابل للاعتقاد والتجسيد..ولنا في هذا الباب صرح تعبدي كامل، بدايةً من غار حراء حتى للتكاليف المباشرة التي جعلت من التفكر محطة ضرورية ملحة لا ترفا طبقيا يتميز به جمع عن جمع..
ففي حقب مضت كان التفكر ترفا لا يحظى به إلا الفلاسفة ممن اختصوه لأنفسهم وأخرجوا منه العلوم والنظريات، ليحُثَّ الإسلام بعدها على ضرورة جعله مسلكا تعبديا دائما يُحصِّل منه المؤمن الأجر والعبر..
يُعرّف الدكتور طارق سويدان الفكر في جملة شافية وافية تلم بمجاميع اللغة والمعنى وتسهل علينا الخوض في كل تلك التعريفات التخصصية المختلفة فيقول: "الفكر هو إعمال العقل في أمر ما للوصول لرأي جديد فيه "، فالفكر يضم العديد من القضايا والمسائل بداية بالعقيدة، وحتى مختلف الجوانب القيمية والسلوكات..
وتحت الفكر تنضوي عملية تحليل الماضي ودراسة الواقع من أجل استشراف المستقبل، وخلاصة الأمر أن الفكر يشمل كل جوانب الحياة بشقيه الديني والدنيوي..
وبالرجوع إلى عصرنا وأمتنا نجد أننا تأخرنا وتقهقرت عزائم الأفكار عندنا، بل بات صميم أزمتنا هو الفكرة نفسها، ففي الوقت الذي أمسُ ما نكون فيه بحاجة لخوض معارك الأفكار، ها نحن نقع في فخ تعطيلها وتحريفها نحو مساقاتٍ مميتة، خلقت لنا عقولا مستسلمة وأفكارا تابعة، بالرغم من الخصائص والمميزات التي يرصع بها الفكر الإسلامي عما سواه كفكرٍ حضاري إنساني عادل و متوازن له هدف واضح يسعى لتحقيقه وليس محصورًا على العرب والمسلمين أنه فكر واقعي عملي وعقلاني قابل للتحقيق، يحترم قواعد المنطق والعقل المعتمد بها فهو ليس فكرا لاهوتيا ولا ماديا خالصًا، بل هو فكر واقعي مادي ممدود بحبل إلهي سماوي، كما أنه دائم التجديد ويقبل أي مستجدات على مر الأزمنة، فلا تجد مستجدًا إلا وللإسلام فيه رأي وإحاطة وهذا ما يكسبه مرونة تساعده على الانتشار في مختلف بقاع الأرض.
إن ما نقف عليه الآن هو الكدر الذي أصاب نهرنا العذب الزلال، الكدر الذي استفحل على مر السنوات المتراكمة والمتراكبة، والتي اجتهد مختلف المصلحين من قبل في تصفيتها وتعذيب مجراها من جديد من ضمنهم المصلح محمد عبده، جمال الدين الافغاني، حسن البنا، القرضاوي، محمد الغزالي، أبو الأعلى المردودي، مالك بن نبي وغيرهم من المصلحين الذين تعاقبوا على هاته المهمة..
لكن بقي هناك من الغبش الكثير والذي حُقَّ لنا أن نعيد التأمل فيه ونكمل مسارهم التصحيحي فيه.. سنبسط ذلك في الفقرات اللاحقة ونحاول تحجيم منابع التصفية منبعا تلوى الآخر..
-
المنبع الأول: الأهواء والانتماءات
تأثر نهر الفكر بنبع الأهواء والانتماء المتكدر، فنجد أن التاريخ كتبته أنامل منحازة، وأفئدة متأثرة بخلفياتها المختلفة، فلا تكاد تلمس موضوعيةً في الطرح أو عقلانية في السرد ، و تجد في الموروث نماذج منحازة وضعت بشكل قواعد عامة على المؤمن أن يعتقدها دون أبسط عملية لإعمال عقله، كنوع من التعطيل المكره للعقل..
نحن بحاجة لتصفية هذا المنبع من الانتماءات والانجازات غير الموضوعية والتي لا زالت تبعاتها المؤذية تستمر في تكدير صفاء الفكر الإسلامي.
-
المنبع الثاني: العادات والتقاليد
إن حجم المغالطة الذي يقع فيه الكثير من العامّة في الخلط بين العادات والتقاليد والدين حجم لا يستهان به، حتى بات الإسلام يأخذ شكله وصبغته الشرق أوسطية وكأن تلك العادات والتقاليد هي صميم الدين، يذكر أستاذ الرياضيات الأمريكي "جيفري لانج" في كتابه "حتى الملائكة تسأل" أنه انصدم لحجم الخلط بين الإسلام كدين عالمي وبين العادات الشرق أوسطية المقحمة فيه بداع الدين، وأن هذا الأمر صعَّب على الكثير من الأمريكيين فكرة الاندماج مع الدين الاسلامي، لذلك وجب أن نجفف هذا المنبع من اعتقاداته ونعيد إطلاق جريان كل من الدين والعادات والتقاليد في مجراهم الصحيح.
-
المنبع الثالث : ظاهرة الذكورية
لا يخفى على أحد حجم السطوة الذكورية العالمية على مختلف منافذ السلطة والقرار وحتى مجالات الإسهام العلمي والثقافي وهذا ليس راجع لقصور في المرأة كما يزعم البعض بقدر ما هو استغلال وفرض سلطات تمنعها من الإسهام بالشكل المطلوب، بداية بوضع قوانين مجحفة وانتهاءً باستغلال الدين لمحو دور المرأة في مختلف المجالات، كما هو الحال عند بعض الشيوخ والمذاهب التي ولفترة قريبة كانت تحرم تعليم المرأة وخروجها بالمرة، كنوع من التغطية والتعتيم على حقيقة الحرية الممنوحة للمرأة، يستفيض في ذلك الدكتور عبد الحليم أبو شقة في كتابه "تحرير المرأة في عصر الرسالة" في كشف الكثير من الزيف الذي طال تراثنا فيما يتعلق بحريات المرأة..
-
المنبع الرابع : الانبهار والتبعية والتقديس
من منّا لم يلحظ الموجة الأخيرة من الانبهار التي طالت شبابنا لكل ما هو غربي، فبعد أن عانى الفكر من تلك الشريحة المقدسة للتراث وشخوصه ها هو يستلم نسخة محدثة تذم التراث وتنبهر بالنموذج الغربي، الأمر الذي شكل لنا عقولا معطلة وشبابا تابعين يساقون بفهوم المقدس لديهم، مُسَلِّمين بذلك عقلهم وفكرهم..
على الشباب أن يستقل بعقله وإرادته وتكون له وجهة نظره الخاصة في مختلف القضايا بعيدًا عن الانبهار والتقديس كي يستحيل هذا النبع عذبا زلال..
-
المنبع الخامس : التأثر بالواقع
ينبوع اليأس والقنوط، إن تغير الخطاب الحماسي نحو خطاب يائس أمر يكدر صفو فكرنا ويدعو للاستمرارية في اعتقاد الضعف، مما يُعجز ويثبِّط، وهذا الأمر لا يقع فيه إلا جاهل بوقائع الحال وما وصل إليه المسلمون من تقدم بارز وملحوظ في سلم النهضة..
إن الهدف من تصفية هاته المنابع هو علاج للخلل وتجديد ينابيع الصفاء فيها والمزايا المكتنزة عليها، فنعالج مسائل الذكورية والخلط الحاصل في العادات والتقاليد ونعالج التاريخ وننقحه مما أصابه من غبش، ونصحح العقول المقدسة والمنبهرة وتأثره بالواقع ويأسه..
ونعيد لهذا النهر مزاياه ونُنعشه من جديد..
ولا يكون ذلك إلا بمنهجية علمية تحترم الموضوعية ومزايا العقل من منطق وتحليل واستدلال واستنتاج وكل ذلك لزيادة المناعة الحضارية والتي نعني بها جودة الفكر ودرجة انتشاره بين الناس.
وفي هذا الصدد تطرح منصة عمران مجموعةً من المشاريع التي تعمل على تفكيك وحل الأزمة ينبوعا ينبوع ، أين يبرز جانب المشاريع كل التفاصيل المتعلقة بذلك..