من نشأة علمية في أحضان الفكر الغربي، الممتد من فكر اليونان إلى الحداثة، خرج فيلسوف إسلامي أبى إلا أن يجدد الوصل بمرحلة الطفولة وما تلقاه من تربية إسلامية من شيوخ زيتونة تونس، فبدأت حياته طفلا مع الكتاب حفظا وتعلما ثم عاد إليه بعد أشده فيلسوفا مفسرا. إنه الدكتور والمفكر الإسلامي أبو يعرب محمد الحبيب المرزوقي الزيتوني البنزرتي التونسي، الفيلسوف الذي قال عن نفسه: "لكني فعلا مثير للجدل بخياراتي الفكرية والعقدية ومحاولاتي الفلسفية التي ترفض الجري وراء الموضة مثل باعة "روبافيكا" -فضلات الفكر الغربي-، رغم أن تكويني هو بالأساس غربي من فكر اليونان إلى فكر الحداثة." 

فكيف كانت عودة المرزوقي من فلسفة اليونان إلى فلاسفة الإسلام؟ وما هي مظاهر التجديد التي يراها فيلسوفنا في الفكر الفلسفي عموما؟ وما هي رؤيته الفلسفية لاستئناف نهضة الأمة؟ 

من بنزرت المحضن الأول إلى الغرب أين استكمال الدراسة

في سنة 1947م سيولد طفل لعائلة من عوائل واحدة من أقدم الجامعات في العالم، جامعة الزيتونة، في ولاية بنزرت التونسية. سيتلقى الطفل تربية إسلامية فيحفظ القرآن الكريم، فالأب شيخ والأخ شيخ زيتوني، لكن بدل أن يستكمل دراسته في تخصص شرعي كما هو الحال لأبناء أسرته سيسجله أبوه في مدرسة عصرية شهدت تفوقه في جميع مراحلها حتى التحق بدار المعلمين العليا. ليشد بعد ذلك الرحال لبلاد الغرب مستكملا دراسته ومتخصصا في فلسفة اليونان. فحاز على الإجازة في الفلسفة من جامعة السوربون في 1972م، وبعدها دكتوراه دولة في الفلسفة العربية واليونانية عام1991م. 

ملأً للجراب واستغناء عن التراب (الناس) سعى فيلسوفنا للاكتساب، فتقلد وظائف عدة في مجال التعليم، سدت حاجته وضمنت له قربه من العلم وقضاياه، رغم إقراره بالفشل المتكرر للمنظومة التعليمية في البلاد العربية في إثمار منتجين، فكانت الكلفة بذلك مضاعفة: كلفة التكوين وكلفة العطالة بعد التكوين. 

اشتغل أستاذا للفلسفة في كلية الآداب - جامعة تونس الأولى في الفترة 1980 - 2006 م.

ومديرا لمعهد الترجمة (بيت الحكمة) في تونس في الفترة 1983 - 1991 م.

وأستاذا للفلسفة في الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا في الفترة 2002 - 2006م.

أما في تخصص الفلسفة فقد درس الدكتور أبو يعرب على كبار أهلها وروادها. كما درس القانون في الجامعة الفرنسية مستفيدا من كبار القانونيين هنالك. إلا أننا لا نقف لأبي يعرب على تتلمذ على فقهاء الشريعة وعلمائها باستثناء ما تلقاه في صباه، وقد كان لذلك أثر في بعض آرائه العقدية والفقهية والتي لا مناص من مراجعة أهلها لغير المتخصص.

في الفلسفة، يتكلم أبو يعرب عن أساتذة مباشرين أي الأحياء، وعن أساتذة غير مباشرين بأعمالهم لأنهم من السلف في الميدان. 

فمن الأحياء الذين درس عليهم: 

  • المفكر الفرنسي ميشال فوكو مدة سنتين في تونس.
  • الفيلسوف الفرنسي جان هيبوليت مترجم هيغل وريكور في دورات أساتذة زائرين لكلية العلوم الإنسانية في جامعة تونس الأولى خلال نفس المدة وغيرهما. 
  • الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر.
  • الفيلسوف النمساوي فتغنشتاين، وجُلّ فلاسفة مدرسة فرانكفورت.

ومن الأموات: أفلاطون وأرسطو وديكارت والفلاسفة الألمان لايبنتز وكانط وهيغل وغيرهم، وغوته وشلنغ وفشت ونيتشه وهوسرل، وكل فلاسفة الإسلام من الكندي إلى ابن رشد.

وأما في القانون، فكان أهم من درس عنده أبو يعرب في باريس القانون الإداري أشهر علمائه الفرنسيين جورج فودال.

إنتاجات تَعكِس موسوعيّة المرزوقي

أبو يعرب فيلسوف يذكرنا بموسوعية الفلاسفة المتقدمين، إذ تجد أحدهم فيلسوفا طبيبا قاضيا وفقيها. وتجلت موسوعية المرزوقي في تنوع كتاباته سواء ما تعلق بموضوعاتها أو لغة كتابتها، فللرجل أكثر من مائة بحث ومقال ودراسة بالعربية والفرنسية والإنجليزية في قضايا الفكر العربي والإسلامي والإنساني. بالإضافة إلى مشاركاته في الندوات والمؤتمرات المحلية والدولية، مع لقاءاته التلفزية المبثوثة على مختلف صفحات الإنترنت.

1- أما الكتب فمنها:
  • مفهوم السببية عند الغزالي.
  • إبستمولوجيا أرسطو أو منزلة الرياضيات في الخطاب العلمي الأرسطي.
  • الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر.
  • فقه العلم ومراسه أو الإبستمولوجيا البديل.
  • إصلاح العقل في الفلسفة العربية: من واقعية أرسطو وأفلاطون إلى إسمية ابن تيمية وابن خلدون مركز دراسات الوحدة العربية، 1996.
  • وحدة الفكرين الديني والفلسفي دار الفكر 2001.
  • تجليات الفلسفة العربية منطق تاريخها من خلال منزلة الكلي دار الفكر المعاصر للطباعة والنشر والتوزيع 2001.
  • آفاق النهضة العربية ومستقبل الإنسان في مهب العولمة دار الطليعة، 1999.
  • في العلاقة بين الشعر المطلق والإعجاز القرآني دار الطليعة.
  • شروط نهضة العرب والمسلمين دار الفكر 2001.
  • فلسفة التاريخ الخلدونية : دور علم العمران في عمل التاريخ وعلمه
  • نقد الميتافيزيقا بين الغزالي وابن رشد.
  • النخب العربية وعطالة الإبداع في منظور الفلسفة القرآنية.
  • شرعية الحكم في عصر العولمة.
  • الثورة القرآنية وأزمة التعليم الديني.
  • حرية الضمير والمعتقد في القرآن والسنة.
  • الجلي في التفسير.
  • استئناف العرب لتاريخهم الكوني (ثورة الحرية و الكرامة : تونس نموذجا) : الدار العربية للعلوم ناشرون و مركز الجزيرة للدراسات 2011.
2- تواليف مشتركة..

ومما يشهد لانفتاح أبي يعرب على مختلف تيارات الأمة الفكرية، تآليفه المشتركة مع الموافق والمخالف، ومنها:

النظر والعمل والمأزق الحضاري العربي والإسلامي الراهن تأليف مشترك مع د. حسن حنفي دار الفكر المعاصر للطباعة والنشر والتوزيع 2003.

آفاق فلسفة عربية معاصرة تأليف مشترك مع الطيب تيزيني دار الفكر المعاصر للطباعة والنشر والتوزيع 2001.

إشكالية تجديد أصول الفقه / حوارية مع د. محمد سعيد رمضان البوطي دار الفكر 2006.

3-ترجماته:

الترجمة باب من العلم في العلوم الإسلامية قل من اهتم به في زماننا وأقل منه من يستطيعه ويكون له أهلا. ومن ذاك القليل الدكتور أبي يعرب الذي برع في عدة لغات خولت له الرباط في ثغر الترجمة في تخصصه الفلسفي. ومن هذه الترجمات: 

  • ترجمة المثالية الألمانية، تحرير الأصل الألماني: هنس زند كولر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2012م.
  • ترجمة كتاب مصادر الفلسفة العربية بيير دوهيم دار الفكر 2005.
  • ترجمة كتاب بسيط المنطق الحديث ويلارد كواين دار الطليعة، 1996.
  • ترجمة كتاب الإناسة.
  • ترجمة كتاب الموجز في راهن الإشكاليات الفلسفية مشكل غاية التأسيس وعقلانية الفلسفة.

أهم قضية شغلت فكر أبي يعرب: فهم العقل في الممارسة العلمية التراثية

في جوابه لسؤالي بخصوص الطرح الفلسفي للدكتور أبي يعرب المرزوقي، سطر أحد أعلام الفكر الفلسفي في المغرب وهو الدكتور إدريس نغش الجابري كلمات هي مفاتيح لفهم الرؤية الفلسفية للمرزوقي، فقال متفضلا:

"أهم قضية شغلت الرجل هي: فهم العقل في الممارسة العلمية التراثية، بأشكالها المختلفة (فلسفة، كلام، منطق، فقه، تاريخ، علوم دقيقة). وأهم مسلك يفضي إلى معالجة القضية هو الجواب على الإشكال الآتي: كيف كان العلماء والفلاسفة والمتكلمون يفهمون نشاط العقل، وتجلياته في التاريخ؟ وكان المدخل للجواب هو: إذا كان العقل يشتغل بمفاهيم سواء في التعبير عن الأفكار والنظريات، أو في الاستدلالات عليها، فإن الإشكال إذن يؤول إلى مسألة "الكُلِّي": ما دام المفهوم كليا، فأولا كيف ينشأ في العقل، وثانيا: هل للكليات العقلية وجود في الأعيان (أي واقعية كما يعرف ذلك اصطلاحا) أم هي مجرد أسماء لغوية في اللسان وتصورات عقلية في الأذهان (أي اسمية، كما يعرف ذلك اصطلاحا أيضا)؟ فكان هذا مدار أطروحة المرزوقي المهمة التي هي أهم ما كتب على الإطلاق، والكل خادم لها، أعني كتاب (إصلاح العقل في الثقافة العربية الإسلامية). وجوابه على الإشكال هو: أن العقل العلمي الإسلامي (اسمي) وليس (واقعيا). وأن هذه كانت الخاصية الغالبة على الفكر العلمي والفقهي، ومن أبرز من مثل هذه الخاصية الاسمية ابن خلدون وابن تيمية، ضدا على الفلاسفة ومن تأثر بهم وبمنطقهم." 

ولعلنا في ثنايا هذا التقرير نقترب أكثر من فكر الفيلسوف أبي يعرب، ونتلمس تطبيقات هذا الفكر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

أي نصيب لنهضة الأمة في فكر الفيلسوف المرزوقي؟

أن ترى سياسيا أو عالما فقيها يهتم بواقع الأمة ومستقبلها فذاك معتاد، لم يكد يخل منه زمان أو مكان، ولكن أن ترى فيلسوفا لا يكتفي بتحليل الواقع فقط بل يجاوز ذلك بتحليل أحداث يومية يعيشها مع شباب الأمة بفكره، فيتواصل معهم بواسطة وسائلهم المستحدثة، فتلك مزية اختص بها الفيلسوف أبو يعرب. بل وانتقد التفلسف المجرد المبتعد عن اهتمامات الواقع السياسي والروحي والثقافي والاجتماعي.

يقرر الدكتور أبو يعرب أن المطلوب من الإنسان انطلاقا من آي القرآن يتلخص في قاعدة مضمونها: التعمير بقيم الاستخلاف. وهي تصحح تصور من يظن أن نكون خلفاء دون عمران، ومن يعتنق عولمة اهتمت بالعمران ولكنه دون قيم الاستخلاف، فكان تعميرا يؤول إلى تدمير.

ولذلك انتقد المرزوقي الغزالي حين ميز بين علوم الدين وعلوم الدنيا، إذ القرآن لا يفصل بينها، بل يعتبر علوم الدنيا (أي علوم الإنسان المستعمر في الأرض) متأصلة في علوم الدين (أي علوم الإنسان المستخلف فيها)، بوصف كلا النوعين مشدودا إلى ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ، الماوراءين المحددين للمُثل التي يشرئب إليها الإنسان لئلا يخلد إلى الأرض.

ويرى أبو يعرب أن تخلفنا المادي ليس إلا العلامة الصادقة على تخلفنا الخلقي. وهذا الكلام لا يعني أن التقدم المادي دليل على التقدم الخلقي، والدليل: حال أخلاق الغرب وقيمهم. وهذا ما يقرره الدكتور بقوله: "ليس كل تقدم مادي دالا على التقدم الخلقي، لكون الأول لا يكون علامة على الثاني إلا إذا كان ذاتيا، لكن كل تخلف مادي دال على التخلف الخلقي لكون الأول لا يمكن أن يكون غير ذاتي، إذ لا يستطيع غيرك أن يفقدك القدرات التقنية النابعة عن استخلافك النظري إذ هي تطبيقه" 

وواصفا لواقع المسلمين اليوم يقول أبو يعرب:

جذور الأزمة النهضوية

بعد زمن النبوة والعهد الراشد وبعد أربعة حروب أهلية ستستقر الأمة على حالة ستعرف انقلابين دستوريين:

  • انقلاب الدستور السياسي: صار فيه التغلب على الحكم هو الأصل، وليس الاحتكام إلى الشورى لتعيين الحاكم، أو بالأحرى: "البيعة لم تعد حرة".
  • انقلاب الدستور المعرفي: فبدل طلب آيات الله في الآفاق وفي الأنفس كما قال المولى تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت: 53]، صار طلبها في عالم الغيب (كحال أهل الكلام) جاعلين الواو للعطف في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]

فصارت الأمة بهذين الانقلابين تعمل بعكس قيم القرآن.

أهمية العمران لتحقيق الاستخلاف

مما يبرز قيمة العمران في الإسلام ذاك الوصل بين الرزق المادي والرزق الروحي. فالصلاة تتوقف على الطهارة وهي تحتاج رزقا، والزكاة تتوقف على النصاب (فيحرم الفقير من هذا الركن)، والصوم مشروط بالصحة وهي تحتاج رزقا ماديا لرعايتها، والحج احتياجه للرزق المادي ظاهر. فهذه أربعة أخماس من الإسلام كلها متوقفة على الرزق المادي بشكل أو بآخر. ولذلك فالفقر فقران: فقر وجود وهذا واجب تحققه العبودية لله، وفقر مادي وهو غير مطلوب يجعل غيرك يستعبدك.

ومع الأسف –يقرر أبو يعرب- أن في مجتمعاتنا: الفقراء يعيشون بالتسول، والأغنياء يعيشون بالحماية الأجنبية، فحن خاضعون في رعاية ذواتنا لغيرنا، وفي حماية دولنا لغيرنا. ومن يحتاج لغيره في رعايته، عبد لمن يرعاه وليس لربه. ومن يحتاج لغيره في حمايته عبد لمن يحميه وليس لربه. 

فتكون بذلك دولنا قد تخلت عن المسئوليتن اللتين أنيطت بها: مسئولية الرعاية ومسئولية الحماية. بل وصرت في دولتك تخاف حاكمك الذي يستعبدك، وهو يخاف حاميه الذي يستعبده، فيستعبدك حاميه ويستعبدك حاكمك. وبذلك تصير عبوديتك لغير خالقك بسبب تفريطك في وظيفتك العمرانية.

أمام هذا الواقع –حسب أبي يعرب- ننصدم بانتحار روحي للنخب، والذي يتجلى في رغبة البعض في إعادة عالم مثل سابقنا، ورغبة آخرين في إعادة عالم مثل غيرنا، في حين أن الأصل هو أن نبدع مستقبلنا.

ولتحقيق هذه النهضة المرجوة يتحدث الدكتور عن شروط استئناف الأمة لدورها الحضاري انطلاقا من نظرية الأحياز والتي يمكن تلخيصها كالتالي:

الإنسان متحيز في زمان ومكان، وبتفاعله مع هذين الحيزين تكون النظرية كالتالي:

ولذلك فبنية المجتمع الذي له سيادة تقوم على: 

  • حماية مكانه وبالتالي يحمي ثروته
  • وحماية زمانه وبالتالي يحمي ثراته

وقد كان قصد الاستعمار خراب هذين الحيزين: فشتت المكان وذلك بتقسيم الأراضي الإسلامية فضاعت الثروة. وحاول تحجيم الزمان ليحدث قطيعة مع التراث، وحين عجز عن ذلك زرع نخبا هدفها إحداث هذه القطيعة من خلال إثارة النزعات العرقية التليدة، كجعل مصر فرعونية وسوريا فينيقية والعراق بابلية وتونس قرطاجنية...

وبنفس متفائلة يصرح أبو يعرب بفشل مخططات الاستعمار في القضاء على أحياز الأمة، وإن كان قد استطاع تأخيرها وعرقلة نهضتها، وقد جاءت ثورات الربيع العربي متجاوزة الحدود المرسومة بين البلاد بل وحتى الثورات المضادة أكدت على وحدة الحيز المكاني من حيث لا تشعر. وطبعا الحيز الزماني سيبقى متحدا ما دام متعلقا بالإسلام الموحد لتاريخ هذه البلدان.

النظر مقدمة حتمية للعمل

ومن أجل الوصول إلى تلك النهضة القائمة على عمران بقيم الاستخلاف، يعيد أبو يعرب تموقع النظر (الفكر) مع العمل من خلال بيان ضرورة تقدم الأول -أي النظر- وعدم الاستعجال بالثاني -أي العمل-، إنه ترتيب بين العاجل والآجل.

ومن صور اختلال هذا المعنى، انشغال الأمة بالمطالب العاجلة معيشيا وسياسيا، حيث يتساءل أبو يعرب قائلا: "أليس طغيان العاجل من ضرورات العيش اليومي، ومن ضرورات الدفاع لما يستلزمه صراعنا مع إسرائيل هما الحائلان دوننا وفهم السر الذي مكن الوضع المادي المتردي والأعداء من استعبادنا بالضرورات المادية العاجلة بالحيلولة دون شروط التنمية الفعلية الآجلة؟" 

إن ما يتصوره البعض وخاصة من أهل النهضة من الإسراع في إنشاء الشوارع الواسعة وناطحات السحاب الفارهة واستعمال التكنولوجيات العالية هو النهضة المرجوة، إنما ذلك عاجل لا يحقق المطلب الكوني للمسلم الذي هو الاستخلاف. بل لابد من العناية بالآجل الذي هو النظر -الفكر-، لأن هذا الآجل هو الاستعداد المستمر للعاجل عندما يحين أوانه.

وفي نظرة متكاملة بين العاجل والآجل يقرر أبو يعرب أن "العاجل والآجل متعلقان بفعلين من أفعال العقل، وهما: النظر الذي لا يكون إلا آجلا، والعمل الذي لا يكون إلا عاجلا"

من معضلات الفكر..

حتى عند كثير ممن اهتم بالنظر أي الفكر من أجل النهضة فقد وقعوا في معضلات اعتبرها المرزوقي من علل تخلف الفكر في نهضتنا. ذلك أن هذا الفكر لم يستطع لا تجاوز الميت من تراثنا ولا استيعاب الحي من تراث الغرب، لأن ما يسمونه تحصيلا للفكر الغربي هو أقرب إلى تجارة "الروبافاكيا" (الأثاث المستعمل) وليس فكرا حيا.

إذا فالفكر المسهم في نهضتنا يجب أن يجمع بين الحي من تراثنا واستيعاب فكر الغرب ونخله للاستفادة من الشروط التي فاتت الأمة وقت سباتها.

وبحكم تخصصه الفلسفي فإن أبا يعرب ينتقد فلاسفة العصر في حصر فكرهم في فهم أطروحات من تقدم من الفلاسفة والمنافحة عنها بدل الاستنان بفعلهم الفلسفي نفسه، فيتفلسفوا كما تفلسف من سبق وينشغلوا بقضايا عصرهم.  

ونلمح في فكر أبي يعرب إشادة بجهود عالمين علمين تميزا ببصمتهما في تاريخ الفكر الإنساني عموما والفكر الفلسفي على وجه الخصوص: إنهما ابن تيمية وابن خلدون. والذين عدهما أبو يعرب رمزي الأوج الذي بلغته الفلسفة العربية، والذروة التي لم يصل إليها الفكر العربي والإسلامي إلى يومنا هذا رغم كل محاولات استيعاب الفكر الغربي الحديث والمعاصر.

أما ابن تيمية ومسألة العلاقة بين العلم والإيمان، فقد اكتشف أبو يعرب في فكره أنه كان من مستوى فلسفة أرسطو بل لعله متجاوز لها، وقد كان نقد ابن تيمية يتعلق بنظرية المعرفة والقول بالمطابقة أي القول بالتطابق بين العلم والوجود، في حين ابن تيمية يجعل العلم صورة جزئية وناقصة عن الوجود. ولا شك أن هذه النظرية تسمح بتطور العلم الذي يسعى لفهم هذا الوجود الواسع.

وهذه ثورة ابستمولوجية تعيد تعريف العلم بأنه مقدرات ذهنية ينضاف إليها معطيات تجريبية خارجية.

وأما ابن خلدون في مسألة علاقة الفلسفة بالتاريخ، فبعد أن بين أن الفلاسفة لم يعتبروا التاريخ جزءا من الفلسفة وأنه ليس علما. حاول إثبات أن التاريخ علم فلسفي وأسس فلسفة التاريخ. وقرر أن التاريخ ليس علما خاصا بالسياسة وأمور الحكم فقط بل يتناول الظاهرة الاجتماعية كلها، منها الاقتصاد والثقافة والعمران. ولذلك ميز بين نوعين من التاريخ، تاريخ قصير ويعنى بتاريخ الدول، وتاريخ مديد يهتم بتاريخ المجتمعات والحضارات والثقافات.

عرفان واعتراف

ما أصدق قول القائل "أضاعوني وأي فتى أضاعوا" على علاقة الدكتور أبي يعرب مع الجامعة التونسية. فبدل الاحتفاء بخبير في تخصصه بل ومجدد فيه، والعناية بفكره وبحوثه، يحكي المرزوقي في إحدى حواراته التضييق الذي مورس عليه فيها، حيث لم يشرف طيلة مسيرته الأستاذية داخل الجامعة التونسية إلا على بحوث أربعة طلاب أصيبوا هم أيضا بعدوى المضايقة والإبعاد. ولكن ذلك لم يوهن من عزم الرجل، إذ الفكر لا تقمعه سلطة.

حاز الفيلسوف أبي يعرب على جائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع الترجمة، عن ترجمته لكتاب الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل "أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص وللفلسفة الظاهراتية".

من أقوال الفيلسوف:

  • المنطقة لا تزال تعيش الربيع العربي، وما من ثورة هزمت فكريا حتى لو خسرت المعركة المادية".
  • "لا الفلسفة فكرها محيط ولا الدين فكره خرافي".