أشـرف عمر بن عبد العزيز بنفسـه على ما يتم في دولتـه من أعمال صغرت أو كبـرت، وكان يتابع عماله في أقاليمهم، وساعده على ذلك أجهزة الدولة التي طورها

عبد الملك بن مروان، كالبريد، وجهاز الاستخبارات الكبير الممتد في أطراف الدولة، والذي كان الخلفاء يستخدمونه في جمع المعلومات.

وعلى الرغم من عناية عمر بن عبد العزيز في اختيار الولاة، إلا أن هذا لم يمنعه من العمل على متابعة أمر الرعية وتصريف شؤون الدولة، وقد اشتهر عنه الدأب والجد في العمل حتى أصبح شعاره: لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، فقد قيل له: يا أمير المؤمنين! لو ركبت فتروحت، قال: فمن يجزي عني عمل ذلك اليوم؟ قيل: تجزيه من الغد، قال: فدعني من عمل يوم واحد، فكيف إذ اجتمع علي عمل يومين. [1

 وقال ميمون بن مهران: كنت ليلة في سمر عمر بن عبد العزيز، فقلت: يا أمير المؤمنين! ما بقاؤك على ما أرى؟ أنت بالنهار في حوائج الناس وأمورهم، وأنت معنا الان ثم الله أعلم ما تخلو عليه، فقد كان ـ رحمه الله ـ يمضي الكثير من وقته لرسم سياسته الإصلاحية التي شملت مختلف الحياة السياسية والاقتصادية والإدارية، وغيرها.. حتى خلف رحمه الله كمّاً هائلاً من تلك السياسات التي تمثل مواد نظام حكمه الإصلاحي الشامل، وقد بعث بهذه السياسات إلى عماله لتنفيذها في مختلف الأقاليم، وكثيراً ما يردفها بتوجيهات تربوية يذكر فيها عماله بعظم الأمانة الملقاة على عواتقهم، ويخوفهم بالله ويأمرهم بمراقبته وتقواه فيما يعملون ويذرون.[2

وقد كان لمواعظ عمر وتوجيهاته أثر في نفوس عماله أشد من وقع السياط، وأبلغ من أوامر العزل والإعفاء، فكتب مرة إلى أحدهم: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء. فلما قرأ عامله الكتاب، طوى البلاد حتى قدم على عمر، فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، لا أعود إلى ولاية أبداً حتى ألقى الله تعالى.

ولم يكتفِ عمر ببعث تلك السياسات والتوجيهات إلى عماله، بل كان يحرص على متابعة تنفيذها، وتحقق آثارها على رعيته. فلا يفتأ يسأل القادمين عن ذلك، فقال زياد بن أبي زياد المدني حين قدم على عمر من المدينة: فسألني عن صلحاء أهل المدينة ورجالهم ونسائهم... وسألني عن أمور كان أمر بها بالمدينة فأخبرته.

وخرج عمر بن عبد العزيز يوماً فركب هو ومزاحم، وكان كثيراً ما يركب فيلقى الركبان ويتحسس الأخبار عن القرى، فلقيهما راكب من أهل المدينة وسألاه عن الناس وما وراءه، فقال لهما: إن شئتما جمعت لكما خبري وإن شئتما بعضته تبعيضاً، فقالا: بل اجمعه، فقال: إني تركت المدينة والظالم بها مقهور، والمظلوم بها منصور، والغني موفور، والعائل مجبور، فسُرَّ عمر بذلك وقال: والله لأن تكون البلدان كلها على هذه الصفة أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. [3

وحين قدم عليه رجل من خراسان وأراد العودة إلى بلاده؛ طلب من عمر أن يحمله على البريد، فقال له عمر وقد اطمأن لسيرته: هل لك أن تعمل لنا عملاً وأحملك؟ فقال الرجل: نعم. فقال عمر: لا تأتِ على عامل لنا إلا نظرت في سيرته، فإن كانت حسنة لم تكتب بها، وإن كانت قبيحة كتبت بها. قال مزاحم: فما زال كتاب منه يجيئنا في عامل فنعزله حتى قدم خراسان [(311)].

ونلاحظ أن عمر بن عبد العزيز كان يهتم بمصادر متنوعة بجمع المعلومات، لعلمه أن المعرفة الدقيقة بأمور الرعية والولاة تحتاج لجمع المعلومات الصحيحة التي يبني عليها التوجيهات والأوامر والنواهي النافعة للأمة والدولة. لقد اتت هذه المتابعة الدقيقة من عمر لعماله والتوجيهات التفصيلية لهم ثمارها في استقرار أحوال الأقاليم، كما أن هذه التوجيهات والمتابعة من عمر جعلت العمال والولاة في حالة تحفز دائمة للعمل؛ حيث كانت تلك التوجيهات تقع في نفوسهم بمكان، فحدث إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: رأيت أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يعمل بالليل كله وبالنهار لاستحثاث عمر إياه. [4

وكان رحمه الله يرسل المفتشين في الأقاليم ليأتوه بالأخبار: فقد بعث إلى خراسان ثلاثة مفتشين، يبحثون في ظلامات الناس من نظام خراجها، الذي قرره عدي بن أرطأة على الأهالي، وأرسل مفتشاً إلى العراق، ليأتيه بأخبار الولاة والناس فيها.[5] ولقد أعلن عمر في إطار متابعته لشؤون الدولة ما يمكن تسميته بالرقابة العامة، إذ كتب لأهل الموسم في يوم الحج الأكبر: ...إني بريء من ظلم من ظلمكم... ألا وإنه لا إذن على مظلوم دوني، وأنا معوِّل كل مظلوم، ألا وأي عامل من عمالي رغب عن الحق، ولم يعمل بالكتاب والسنة فلا طاعة له عليكم… ألا وأيما وارد في أمر يصلح الله به، خاصة أو عامة، فله ما بين مئة دينار إلى ثلاثمئة دينار، على قدر ما نوى من الحسبة. [6] فقد أعلن في أكبر تجمع إسلامي، بل شجع مادياً ومعنوياً على مراقبته، ومراقبة عماله، والإفصاح عن كل ما لا يوافق الكتاب والسنة، وبطبيعة الحال فالأمة الإسلامية لا تحتاج إلى غير تعاليم الكتاب والسنة، إذا كان الالتزام بها هدفاً منشودا. [7