في تسعينيات القرن الماضي قدم المرحوم محمد أبو القاسم حاج حمد (المفكر السوداني المعروف) ورقة متميزة للمركز العالمي للفكر الإسلامي؛ بعنوان "منهجية القرآن المعرفية". الورقة قدمت محاولة شجاعة لوضع نظرية عامة ومنهج معياري للتعامل مع فلسفة المعرفة في القرآن الكريم. كعادة المرحوم حاج حمد، بذل جهدا كبيرا وقدم ورقة جيدة الإعداد، محكمة الصياغة.
ثم إن المركز أقام ورشة عمل في القاهرة لمناقشة الورقة، حضرتها شخصيات من الوزن الثقيل: طه جابر العلواني، محمد عمارة، عبد الوهاب المسيري، علي جمعة، محمد حسن بريمة، أحمد فؤاد باشا، عمر عبيد حسنة، وآخرين.
ابتدر الحوار مقدم الورقة، والذي قدم ملخص لما ورد في ورقته. وعلى الرغم من اللغة العالية التي تحدث بها، إلا أني وجدت صعوبة بالغة في مواكبة أفكاره وتبين مقاصده. لكني عذرت نفسي، وظننت أن عجمتي (فأنا نوبي ولست عربي) أصابني في مقتل. لكن ما لفت انتباهي (وقد اطلعت بنهم على محضر الورشة)، أن معظم المتحدثين انتقدوا نزوح المؤلف لتعقيد اللغة، واستحداث صياغات جديدة يصعب فهمها.
حتى أن د. علي جمعة قال:(من الغرائب أنني متخصص وأستاذ في الفلسفة والمنطق، وبحكم تخصصي فقد قرأت مئات الكتب الفلسفية معقدة التركيب. لكني وأنا أقرأ الدراسة عجزت تماما عن متابعة أفكارها، بل وجدت نفسي في حالة تشتت ذهني). بعض المتحدثين اقترحوا على مقدم الورقة إعداد ملحق يشرح الألفاظ المستخدمة، مع تعريف مفصل لكل لفظ.
الشاهد أن الاتجاه النقدي العام تمثل في الآتي: نزوح المؤلف لتعقيد وتقعير اللغة أفسد مجهوده البحثي، وجعل ورقته جامدة صماء، بل وفي حاجة لخريطة لفك طلاسمها.
تذكرت هذه القصة وأنا أتابع كتابات وحوارات عدد من المثقفين العرب المعاصرين، يبدو لي أن السمة العامة لم تعد تقديم الأفكار، وإنما تعقيد البيان. وهذا ما عبر عنه قديما بالقول :"الاهتمام بالمباني على حساب المعاني". هذا النمط الخطابي المتكلف يعقد اللغة ويشتت الأفكار، فلماذا الإصرار عليه؟
تجب الإشارة هنا أن خطابات المثقفين الأمريكيين تعتمد على نسق معاكس: التركيز على الأفكار وتبسيط اللغة والبعد عن استخدام غريب الألفاظ وقديمها. هذا النسق الخطابي الذي ظللت أتعامل معه خلال أكثر من عقد من الزمان (فترة وجودي في أمريكا) دفعني لا إراديا إلى هجر متابعة الصحف والإذاعات العربية، والتحول نحو الإعلام الغربي.
وهنا أود أن أختم بملاحظة اخرى؛ كثيرا من المثقفين العرب الذين يظهرون في الإعلام الغربي (ويفضلون الحديث بالانجليزية) تلاحقهم نفس مشكلة تعقيد اللغة. تجدهم يلجؤون إلى استخدام مفردات إنجليزية أصبحت حبيسة القواميس ولا مكان لها في الخطاب اليومي. الشيء الذي يجعل أفكارهم مبعثرة وغير واضحة.