لا شك أنّ الدفاع عن النبي ﷺ، وكتابنا العظيم، واجب شرعيّ عقليّ، ولعل من أوجه ووسائل الدفاع المهمة في زماننا هو تعريفُ الأمم والشعوب وأبناء الثقافات المختلفة، بالقرآن الكريم، والتي يجهل كثيرٌ منها مقاصدَه العظيمة في التوحيد والعدالة، والتنوع، وتكريم الإنسان، ومعرفة تاريخ الإنسانية الحقيقي، والتعريف بالأخلاق التي دعا إليها النبيّ ﷺ، والقيم السامية التي تمثّل بها ودعا إليها، والتعريفُ بها والدعوة إليها، كلّ ذلك من أعظم مناصرته ﷺ.
وإن إتقان أساليب الدعوة الحديثة، ووسائلها المتعددة والمتنوعة من وسائل الإعلام المعاصرة، تدخل ضمن مناصرة النبي ﷺ، كما أن مناصرة النبي ﷺ يجب أن تتنوع بين المناصرة العقلية والوجدانية والعاطفية والمنطقية، وينبغي أن ترتكز على فكرة الأخذ بالأسباب، والمدافعة في عالم العقائد والثقافة والأفكار، وذلك من خلال بيان القيم والأفكار والمبادئ الإسلامية العظيمة التي أسّسها، والحضارة الإسلامية السامية التي تركها على بناء متين حتى انتشرت عطاءاتها وآثارها في العالمين. وإن العقيدة الإسلامية العظيمة هي امتداد لموكب الأنبياء والمرسلين من عهد أبينا آدم (عليه السلام)، والتي أجابت عن كثير من الأسئلة الوجودية الكبرى التي يبحث عنها الإنسان في الحاضر والمستقبل.
ولذلك يخص هذا المقال الكلام على أهم الجوانب التي تميزت بها الرسالة المحمدية العظيمة الخاتمة، والتي بها كَمُلَ الدين، وتمّتِ النعمةُ الربانيةُ على البشرية، إذ قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3].
وتتميّز الرسالة المحمدية التي حملها سيدنا رسول الله ﷺ، عن الرسالات السابقة كلّها بجملةِ خصائص في مقدمتها: (ركائز الإيمان ص 338).
1 ـ إنها رسالة عالمية
جاءت رسالةُ الإسلام عامةً إلى الثقلين: الإنس والجن، وإلى الأبيض والأسود، وهذه من الخصائص الكبرى المميّزة للإسلام، فإن الرسالات السابقة كانت خاصةً بأمة معينة، وتنقضي بزمان محدّد، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [ابراهيم: 4]. وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ *} [فاطر : 24]. وأمّا خاتم النبيين محمد (ص) فقد خاطبه الله تعالى بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الاعراف : 158]. وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا *} [الفرقان : 1]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ : 28].
2 ـ أنها تحقق المصلحة وتدفع المفسدة
إنّ الرسالةَ المحمّدية جاءت لجلب الخير للناس ، ودفع الشرِّ وأشكال الضرر عنهم ، فهي ليست للعبث أو الهزل أو اللهو ، ولم تأتِ كذلك لتجلب للإنسان الحرجَ والشقاءَ ، ولكنّها جاءت جادّة في دفع المفسدة ، وجلب المنفعة ، حتى إذا ما تحققت للناس عناصرُ الخير والراحة والسعادة والاستقرار ، فقد تحققت مقاصدُ الشريعة على التمام ، يقول الشاطبيُّ في هذا الصدد: إنّ تكاليفَ الشريعة ترجعُ إلى حفظِ مقاصدها في الخلق ، وهذه المقاصدُ لا تعدو ثلاثة أقسام:
- أحدها: أن تكون ضرورية.
- وثانيها: أن تكون حاجية.
- وثالثها: أن تكون تحسينية.
فأمّا الضرورية فمعناها أنّها لابدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالحُ الدّنيا على استقامة ، بل على فسادٍ وفوتِ حياة ، وفي الحياة الأخرى فوت النجاة والنعيم ، والرجوع بالخسران المبين.
ومجموع الضروريات خمسةٌ وهي: حفظ الدين ، والنفس ، والنسل ، والمال ، والعقل ، وقد صانت الشريعةُ كلاً من هذه الضروريات ، وأوجبت لصونها عقوبات ، كالقصاص في القتل ، والحد في الزنى والقذف والسرقة وشرب الخمر.
وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتَقَرٌ إليها من حيثُ التوسعة ، ودفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة ، ومن أجل ذلك شرعت الرخص المخففة في العبادات ، كإباحةِ الإفطار للمسافر والمريض ، وشرعت في المعاملات عقودَ القروض والمساقاة وغيرها.
وأما التحسينات فمعناها الأخذُ بما يليقُ من محاسن العادات ، وتجنّب ما تأنفه العقول الراجحةُ ، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق ، وذلك كالطهارة وستر العورة ، وأخذ الزينة ، وآداب الأكل والشرب، ومجانبة الإسراف والإقتار وغير ذلك. (ركائز الإيمان ص 257).
وخلاصةُ القول: إنَّ الإسلامَ بعقائده وشرائعه ونُظمه وتعاليمه ومعانيه إنّما جاء ليحقّق للإنسان الحياةَ الفاضلة الكريمة التي تتجسّدُ فيها أسبابُ المصالح ، وتندفعُ فيها أسبابُ المفاسد.
إنّ الأنظمة الوضعية التي وضعها البشر لم تفلحْ في صبغ الحياة البشرية بصبغة الأمن والسعادة والاستقرار، فضلاً عن إخفاقها الذريع في دفع الضرر والفساد على وجه الأرض ، بل إنّ الحقيقة المرة هي أنّ هذه المبادئ والنظم التي صنعها البشر قد أفلحت في إغراق الإنسان في جحيم الكوارث والمآسي والويلات ، وأوردته مواردَ الشقاء والعيش البائس ، ذلك العيش المنكود ، الذي تجسّد في حصائل متعددة من الأمراض والحروب والمجاعات والقلق ، والأحزان ، وهي أضرارٌ ومفاسدُ يعاني منها الإنسان ، وسيظلّ يعاني حتى يهتدي ، فيعودُ إلى الصواب بعد أشواط طوال من الويلات والأرزاء.
3 ـ رحمة الدعوة المحمدية
إن الله لم ينزل هذا الدين أصلاً، ولم يرسل محمداً ليعنت به الناس ، قال تعالى: {إِنْ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [البقرة: 143].
فالسماحةُ من أكبر صفات الدعوة المحمدية ، قال رسول الله (ص): «أحبُّ الدِّينِ إلى اللهِ الحنيفيةُ السمحةُ»، ويرجعُ معنى السماحة إلى التيسير المعتدل ، وهو معنى اليسر الموصوف به الإسلام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة : 185].
ومن سماحة الدعوة المحمدية إنكارها على أصحاب النزعات المتطرفة والذين يحرّمون الطيبات والزينة التي أخرج لعباده.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ *} [المائدة : 87 ـ 88].
وهذه الآية الكريمة تبيّن للمسلمين حقيقةَ منهج الإسلام في التمتع بالطيبات ومقاومة الغلو الذي وجد في بعض الأديان أو عند بعض المتنطعين. (سماحة الإسلام ، عمر بن عبد العزيز ص 370).
ومن سماحة الدعوة المحمدية ما يتبعه من منهج في الدعوة إلى الله عز وجل وجدال المنافقين، ففي القرآن الكريم قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
ومن تأمل الآية الكريمة يجد أنّها لا تكتفي بالأمر بالجدال بالطريقة الحسنة، بل أمرت بالتي هي أحسن، فإذا كان هناك طريقتان للحوار والمناقشة إحداهما: حسنة، والأخرى أحسن منها، وجب على المسلم أن يجادِلَ بالتي هي أحسن جذباً للقلوب النافرة، وتقريباً للأنفس المتباعدة. (الإيمان بالقرآن والكتب السماوية للمؤلف ص 94).
ومن أبرز الميزات التي تتحلّى بها الدعوة المحمدية بأنها سهلةٌ ميسورةٌ، وهي بطبيعتها تعارِضُ المشقة، وتنفي أية صورة من صور الضيق والحرج، وإن في القران الكريم والسنة المطهرة نصوص كثيرة تنفي كل أنواع الحرج التي لا يطيقها الإنسان أو يشق عليه احتمالها، ومن أدلة التيسير.
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة : 185].
وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا*} [النساء : 28]. وقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا*إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا*} [الشرح : 5 - 6]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا*} [الطلاق: 4]. وقال تعالى: {لا يُكَلّفُ اللهُ نفسهاً إلا مَاْ أَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا*} [الطلاق: 7].
إنّ من خصائص الرسالة المحمدية العظيمة، أنها محفوظة بحفظ الله تعالى لها، فإنه لما كانت الرسالات السابقة مرهونةً بوقت معين ، وزمان محدود ، لم يتكفل الله تعالى بحفظها ، بل وكل حفظَها إلى علماء تلك الأمم، التي أنزلت إليها ، فأوكل حفظ التوراة إلى الربانيين: {وَالرَبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44]. ولم يستطع الربانيون والأحبارُ حفظ كتابهم ، وخان بعضُهم الأمانةَ ، فغيروا وبدّلوا وحرّفوا ، أمّا هذه الرسالة الخاتمة فقد تكفّل الله بحفظها، ولم يكل حفظها إلى البشر ، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ*} [الحجر: 9]، وحفظ كتابها من التحريف والتبديل: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ*} [فصلت : 42].