لا ريبَ أنّ هناك تسليماً تاماً بأهمية الشورى ومحوريتها في النظام السياسي الإسلامي، لكنْ تختلِفُ آراء الفقهاء والمفكرين الإسلاميين حول ما يتبع الرأي الشوري من نتائج، أي مدى إعلامية تلك النتائج وإلزاميتها للحاكم. أو بمعنى آخر: هل يجوزُ للحاكم أن يستمع إلى آراء أعضاء مجلس الشورى ثم يرفض ما أجمعوا عليه أو اتفقوا عليه بالأغلبية البسيطة أو العظمى، أم إنّه ملزمٌ بقبول ذلك الرأي، ولو اختلف مع رأيه الخاص؟! الشورى ومعاودة إخراج الأمة د. محمد وقيع الله، ص87

والذي أميلُ إليه وينسجمُ مع فطرتي، وموازين عقلي، ومحاكمة قلبي، وأعتقد أنَّ الأدلة الشرعية تؤيده هو أنَّ الشورى ملزمة للحاكم، لئنَّ ذلك يمنعُه من الاستبداد، وفي قصة الشورى خلال غزوة الخندق، وعرضه صلى الله عليه وسلم مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة، واعتراضِ زعماء الأنصار عليه، وقبولِ الرسول صلى الله عليه وسلم الاعتراضَ، تدلّنا هذه الحادثةُ على إلزامية الشورى للحاكم، وتضع تقليداً دستورياً هاماً، وهو أنّ الحاكم ولو كان رسولاً معصوماً يجب عليه ألاّ يستبد بأمرِ المسلمين، ولا أن يقطعَ برأي في شأن هام، ولا أنْ يَعْقِدَ معاهدةً تُلْزِمُ المسلمين بأي التزام دون مشورتهم وأخذ أرائهم، فإنْ فعل كان للأمة حقُّ إلغاءِ كل ما استبدّ به من دونهم، وتمزيق كلّ معاهدة لم يكن لهم فيها رأي. فهذا رأي واضح قاطع في تقرير إلزامية الشورى. (من توجيهات الإسلام، محمود شلتوت ص، 522/523)

وممن يقولون بإلزامية الشورى من العلماء المعاصرين:
أ ـ الدكتور توفيق الشاوي:

فبعد حديث له عن ظروف نزول {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159] علّق قائلاً: ومعنى ذلك أنّ

الشورى واجبةٌ وملزمةٌ، حتى لو كان هناك احتمال في أن يكون رأي الأغلبية خاطئاً أو ضاراً، لأنَّ الضررَ الناتج عن خطأ الأغلبية أخفُّ من الضرر الناتج عن ترك الشورى واستبداد الحكام بالرأي دون الالتزام برأي عامة الناس وجمهورهم، وهو رأيٌ مستمَدُّ عن عبر التاريخ الطويل، وحيث ترك الأمر للحكام لم يبرهنوا على أنّهم أرشدُ دائماً، وأهدى من عامة الناس. (الشورى ومعاودة إخراج الأمة، ص 99)

ب ـ الدكتور رحيّل محمد غرايبة:

أخذ بمبدأ إلزامية الشورى بناءً على الحيثيات التالية:

1 ـ تعارفت الأممُ والشعوبُ على مدار الأزمان بالميل نحو الأكثرية، واعتبار الغالبية في معظم الأحوال دليل صواب.. وتواطأ الناس قديماً وحديثاً، مسلمين وغير مسلمين، على إقرار مبدأ رضى الأقلية برأي الأغلبية، فيمكن الاستئناسُ بهذه التجربة العالمية على إقرار هذا المبدأ، من منطلق توجه العقل الإنساني العام بمجمله في هذا الاتجاه.

2 ـ يقتضي العقل والمنطق أن يكون رأي المجموع أقوم وأصوب وأقرب إلى الحقيقة من رأي الواحد، مهما عظم وطالت خبرته.

3 ـ الإمام أو الخليفة هو فردٌ من الأمة، لا يتميز عن احادها بشيء سوى أنّه أثقل حملاً، وأعظم مسؤولية، كما روي هذا عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا يقتضي أن يكون اجتهادُه مثلَ اجتهاد غيره من المجتهدين، وإذا كان هذا يصح إطلاقه على عمر والخلفاء الراشدين، فهو أكثرُ صحةً وأقومُ بالنسبة إلى غيرهم.

4 ـ إن إلزام الأمير ـ الحاكم ـ باتباع رأي الأغلبية يعتبر ضمانةً على عدم الاستبداد بالرأي، ومنع التسلط الفردي الذي عانت منه الأمةُ فتراتٍ طويلةٍ.

ج ـ الدكتور أكرم ضياء العمري:

بعد أن ذكر الدكتور أكرم ضياء العمري ايتي سورة الشورى (38) وآل عمران (159) استدل على وجوب الشورى بقوله: إن الخبرَ إذ أريدَ به الإنشاء الطلبي فهو أقوى من الأمر، وأمّا الآية الثانية فهي بصيغة الأمر، وليس في القرآن قرينةٌ تصرف الأمرَ عن الوجوب إلى الندب، فلم يبق إلا أن نفتّش في السنة، ولم أجد ـ حسب جهدي ـ في أحداث السيرة النبوية نصاً صحيحاً يدل على صرف الأمر بالشورى عن الوجوب إلى الندب. (النظام السياسي للدولة الإسلامية محمد الغواص، ص211)

وقال الدكتور العمري مؤكداً: لم أقف على ما يدلُّ على عدم إلزامية الشورى. فهو قد أكد رأيه بأدلة من أصول الفقه عزّز بها رأيه في وجوب الشورى وإلزاميتها في الوقت نفسه. (الشورى ومعاودة إخراج الأمة ص، 102)

إنّ موضوع الشورى تحديداً مثارُ بحثٍ وقراءةٍ في الفكر السياسي الإسلامي منذ أن كان الخلاف بين المسلمين على موضوع الإمامة والخلافة، ولضبط العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم في تحصيل المصالح ودرء المفاسد عنهما، وتنظيم طبيعة العلاقة بينهما، كان لا بد من وسيلة فعّالة أو إجراءات مناسبة لذلك، وهذا لا يتحقق إلا بالشورى، لأنّ فيها ضمانةً لمقاصد الشريعة في الحكم والسياسة، وتوفير المزيد من المقاصد الاجتماعية كحرية الرأي والمساواة بين المواطنين، مما يعني ترسيخَ مبدأ الحوار، وتعميقَ مضمون التنمية في البلاد.

ولعل من مرجحات كون الشورى إلزامية أنها حاجزةُ لحالات التسلط في الحكم والقمع للرأي الآخر، وإذا خوّل الحاكم في الاعتداد برأيه دائماً، كان ذلك وبالاً عليه وعلى الأمة وعلى طريقة الحكم، بل قد يصل به الأمر إلى الدخول في العقائد والتشريعات برأيه وفكره، كما قال فرعون لقومه: {مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ *}{[غافر: 29] لذا كانت النتيجة قوله تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى *} [طه:

بل في الظن الغالب على الرأي، أنّه لو لم تكن من مرجحات القول بلزوم الشورى للحاكم أو الرئيس سوى منع حالات الاستبداد بالرأي وقمع الخصوم لكفى وأقنع، إذ لا قداسةَ لرأي، سيما في بعض تجارب الحكم في تاريخنا الإسلامي القديم والمعاصر، إذ إنّ هناك نماذج وتطبيقات يستحيل معها أن نوصي بعدم لزوم نتيجة الشورى للحاكم. (الإسلام والاستبداد السياسي محمد الغزالي ص، 137).

وتزدادُ أهمية ذلك في نوعية القرار الصادر عن مجلس الشورى، خصوصاً إذا كان متعلقاً بمصالح المسلمين العامة، فأمر العامة لا يُرْبَطُ برأي الفرد، وإن كان له من الصفات القيادية الشيء الكثير.

ولاعتبار تقني أكثر منه شرعي، فإنّ علم الشورى علمٌ إداري سياسي قائم في جميع مجالات الحياة، بل ويعتبر الجانب السلوكي في عمل الحاكم أو المسؤول عملية تعليمية وتدريبية للآخرين، بل هو على حدِّ تعبير أحدهم بالمعلم الكبير. (أصول الإدارة والتنظيم، عمر الجوهري ص، 18)

وهذا يتمُّ من خلال تحفيز المرؤوسين والمحكومين بمعرفة احتياجاتهم ورفع روحهم المعنوية، أو جعل القيادة لهم بالمبادأة والقدوة الحسنة، واختيار الأساليب الفعالة، أو بالاتصال بهم، وإعطاء التوجيهات والتعليمات لآرائهم، على أنّ شخصية الحاكم أو الرئيس تلزمه أن يجمع ما بين الكفاءة والكاريزما، وهي بلا شك ضرورية في تفعيل العمل المؤسسي عند الرعية. فالإسلامُ ينشئ الأمة ويربيها، ويعدّها للقيادة الراشدة، ولو كان وجودُ القيادة الراشدة يمنع الشورى، ويمنعُ تدريب الأمة عليها تدريباً عملياً واقعياً في أخطر الشؤون، لكان وجودُ محمد صلى الله عليه وسلم ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى كافياً لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى، ولكن ومع وجود محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الوحي الإلهي، لم يلغَ هذا الحقُّ. (في ظلال القرآن سيد قطب،1/502)

وكما هو متبع في علم الإدارة، فإنّ هناك مزايا للعمل المؤسسي أو الشوري، من أهمها:

أ ـ أنَّ وضع سلطة اتخاذ القرارات سيكونُ قريباً من القواعد، مما يعني سلامة القرارات المتخذة.

ب ـ تخفيض أعباء القيادات نظراً لتفويض السلطة، وإيجاد روابط وثيقة، وزيادة التعاون والتنسيق.

ج ـ تساعد على سرعة اتخاذ القرارات، وسهولة تحديد مناطق الضعف، وسرعة علاجها، كما لا يستطيع الشخص الواحد إدارة عمل متميز، أو على أبعد تقدير إحداث تغييرات على مستوى المؤسسة من دون فريق عمل متميز، لأنَّ خلق منظمة مبدعة، بحاجة إلى عمل جماعي متناسق، أي إنّ علم الإدارة الحديث في الحكم والقيادة يدعم بضرورة الشورى والياتها، واعتبارها مصدر قوة للحاكم والمحكوم، لكن مع تأكيدنا على ضرورة احترام قرار الشورى المؤسسي من أهل الحل والعقد، نرى بضرورة احترام رأي الحاكم، أو احترام حقه في الاعتراض على رأي مجلس الشورى، لا سيما إذا كان له وجاهة وإصابة، بحيث يُثبِتُ رأيه، ويقنع غيره به، ويقر بالمصلحة العامة.

إنّ القول بإلزامية الشورى هو ما ندينُ الله به، ونرى ضرورته وجدواه، ومن دونه لا يمكن تفعيل الشورى على المستوى الدستوري للأمة، فالدولة الإسلامية دولة مدنية، تؤمن بالمؤسسات، وترى فصل السلطات، وأن تكون مرجعيتُها الإسلام، فهي ليست دولة أسرار ثيوقراطية مغلقة يديرها رجالُ الدين، وإنّما دولة لشعب يسعى بذمته أدناه من مواطنيه، ولذا لا بدّ أن يتاح للكل أن يسهم في أمر النصح والشورى، وأن يلتزم ولاةُ الأمور بحكم الأغلبية كشورى ملزمة، فهذا الأمر من الأهمية بمكان، ولا بدّ من أن يستبين تماماً قبل الشروع في أي محاولة جدية لتطبيق الشورى في النظام السياسي الإسلامي. (الشورى ومعادوة إخراج الأمة، ص 108)

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: "الشورى فريضة إسلامية"، للدكتور علي محمد الصلابي.