لا يختلف اثنان على أهمية القادة في المنظمات، إذ لم تذكر لنا كتب التاريخ أن جيشاً انتصر في معركة دون قائد، ولم تذكر لنا كتب الإدارة كذلك أن منظمة نجحت وحققت أهدافها دون قائد، فالقائد يعرف وجهة المنظمة، ويضع رؤيتها، ويحل معضلاتها، ويقف في النوائب يحمل سيف الدفاع عنها، ولا وجود لمنظمة دون قائد، كما لا وجود لقائد دون أتباع!

ويقع على عاتق القائد قيادة المنظمة، وتوجيه بوصلتها نحو خطتها الاستراتيجية، وتقسيم الأدوار، وتحفيز العاملين ورفع معنوياتهم، وتكريم ومكافأة المجتهدين، وأن يكون في المكان والوقت الذي ينبغي أن يكون فيه!

ففي لحظات الخوف والفزع "لا تراعوا...لا تراعوا"، وفي لحظات احتدام السيوف وتطاير الرقاب "كنا نحتمي برسول الله"، وعند اختبار الأتباع وتمايز الصفوف "أنا النبيّ لا كذب"، وعند مخالطة الناس وتعامله معهم "كان خلقه القرآن"، وحين يسمع لهم "أفرغت يا أبا الوليد"، وهكذا للقائد أدوار جليلة، ومواقف بطولية، وأخلاق كريمة، وسلوك قرآني.

يخرج القائد أحمد من بيته صباح كل يوم إلى عمله، يحتسي فنجاناً من القهوة، ثم يبدأ في قراءة ومراجعة عشرات الأوراق والمستندات والمعاملات اليومية، يأتيه زائر أو صاحب حاجة ومصلحة فيقضي معه بعضاً من وقته، ثم يخرج لاجتماع يُعالج قضايا روتينية يومية، حتى إذا انتصف النهار عاد أدراجه إلى البيت متعباً مرهقاً ... وهكذا دواليك في كل يوم، إّنه الحريق اليومي!

هذا النموذج من القادة غريق بالأعمال الروتينية اليومية، التي لا يمكن أن تنقل المنظمة من واقعها اليوم إلى مستقبلها المأمول، بل إنه نموذج للقائد الذي يأخذ بيد منظمته إلى الوراء وإلى مجهول الأيام، وإلى بدايات التأسيس، إنه يرتدي نظارة سوداء ولا يرى إلا ما يريد!

 

فهل سمعتم يوماً عن منظمة دخلت مجال المنافسة وقائدها لا يشاهد نشرة أخبار يومية؟ بل هل قرأتم يوماً عن جامعة وضعت نفسها في مصافّ الجامعات العالمية وقائدها لا يقرأ الإنتاجات العلمية والفكرية الحديثة ذات العلاقة؟ وهل وصلت المنظمات الناجحة دون خطة استراتيجية لها تراعي تطوير وتدريب كوادرها؟ وصناعة قيادات مستقبلية تعرف وجهة المنظمة ورسالتها ورؤيتها؟ 

    إننا اليوم نعاني من قادة لا يدربون أتباعهم، ولا يعيرونهم اهتماماً سواءً وظيفياً أو عاطفياً، ولا يعرفون ما يدور خارج منظماتهم، ولا يعرفون صدى الشارع وحديثه، بل لا يعرفون ماذا يكتب الناس على مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت الحضن الأخير لمن أراد أن يبث همومه وشكواه.

    والأدهى من كل هذا: قادة لا يقرؤون، تحجرت عقولهم، ويبست أدمغتهم، لا يعرفون من العلم إلا الذي درسوه في مدارسهم وجامعاتهم قبل ثلاثين سنة، وأكاد لا أتصور قائداً بلا قراءة إذ كيف سيحاور الأتباع؟ وكيف سيقنع جمهوره؟ وعن ماذا سيتحدث لهم في المناسبات واللقاءات؟ ونتساءل كيف لهؤلاء أن يقودوا منظمات في عصر العولمة والانفتاح وتدفق المعلومات اللحظي بعقليات مغلقة، وعلمٍ ووري في التراب من عشرات السنين!

    إن الحريق اليومي الذي يحرق به القائد نفسه كل يوم سيؤدي بالمنظمة إلى الإفلاس والانتهاء والاندثار ما لم يتدارك الأمر، وينتقل من قائد يجيد رد الفعل إلى قائد يصنع الاستراتيجية، فإن الأمة اليوم بحاجة إلى قادة استراتيجيين "فإن وجودهم يساعد بشكل كبير المنظمات على تطوير استراتيجياتها ونظم عملها.

 القيادة الاستراتيجية هي رهان المنظمات للخروج من الحريق اليومي، وفهم اللعبة الكبرى، وتحليل مناورات المنافسين، وعقد الشراكات والتحالفات الاستراتيجية، وتطوير القدرة على التكيف، والاستفادة من الفوضى، وتنمية حاسة توقع اتجاه الأشياء، واتخاذ أفضل القرارات، وتوسيع مجال الفعل، والتقليل من المخاطر، وربح الوقت، وتوفير الكثير من الموارد الإضافية".

لذا، فإنه ينبغي على كل قائد حريص على نهضة أمته، ونجاح مشروعه أن يضع لنفسه "خارطة طريق" تنقله من العفوية إلى التخطيط، ومن الغرق في اليوميات المُحرقة إلى النظر في الاستراتيجيات، ومن فوضى العلاقات إلى التشبيك المدروس المرتبط بأهداف، وهذا لن يأتي بالأمانيّ والكسل وإنما من خلال فرك ذهن القائد والانتباه إلى أنه لا يوجد مكان في عالم اليوم لساذجٍ ولاهٍ وفوضويٍ وعفوي!

وأولى أوليّات خطة العلاج من الحريق اليومي هي تغيير قناعات القائد حول العمل المؤسسي المُنافس، الذي يصنع الفرق ويقود التحولات، ويهتم بالتخطيط الاستراتيجي ومتابعة تنفيذه، ويعمل على صناعة القادة من خلال إعدادهم وتطوير قدراتهم، وتفويضهم وصولاً إلى تمكينهم، ويساعد في فهم كل ذلك دراسة علم الاستراتيجية، والتجارب المؤسسية والدولية الناجحة وأخذ الدروس والعبر منها.