ليس كلما طرأ على بالنا تساؤل أو ألقيت أمامنا شبهة، اهتز إيماننا، والذي إيمانه ضعيف وهش، فإنه لا يلبث أن يعالج شبهة حتى يتشوش بغيرها، ولن ينعم براحة وسلام اليقين، بل وقد تتراكم عليه الشبهات حتى ينكسر ويفنى إيمانه، لهذا يجب علينا بناء الدعائم الصحيحة التي نستند إليها في إيماننا، الدعائم الثابتة القوية المقنعة، وحين تكون لدينا تساؤلات، فإن إيماننا يجب أن يتحملها ويتعامل معها بما يليق بها.
كما ويجب أيضا أن نسعى ونحب معرفة إجابة هذه التساؤلات والإشكالات، وذلك من قبيل (ليطمئن قلبي)، هذا وإن عرفنا الإجابات، فبها ونعمة، وإن لم نعرف، أدخلناها في حيز التسليم المستند إلى إيمان أعملنا فيه عقولنا، وهو موقف عقلاني صحيح، فمع التسليم التعلم، وكلما طلب أحدنا العلم من مصادره المناسبة، فإنه سوف يحصل على إجابات مقنعة عن هذه التساؤلات، ويتحول التساؤل إلى ركيزة جديدة، ترسخ القناعة بصحة الإيمان بالإسلام وتزيد إيماننا رسوخا، وذلك كما قال الدكتور (محمد الدراز): "فليعلموا أن كل شبهة تقام في وجه الحق الواضح، سيحيلها الحق حجة لنفسه يضمها إلى حججه وبيناته".
هذا ويجب أن نسأل أنفسنا: لماذا ثارت لدينا هذه التساؤلات أصلا؟ هل ثورانها شيء عادي، يحصل مع أي نفس إنسانية؟ أم أن بعضها هو من أعراض هزيمة نفسية نعانيها؟ وأليس من الممكن أن يكون انشغالنا ببعض هذه التساؤلات؛ هو نتيجة نظرتنا إلى أنفسنا وديننا، بعيون أعدائنا، الذين استطاعوا من خلال هيمنتهم على وسائل التواصل والتأثير والإعلام، أن يعيدوا برمجة تفكيرنا، وأحاسيسنا، وذوقنا ومعاييرنا، بما يجعلنا نرى الحسن قبيحا، والقبيح حسنا، وهل هو موقف يناسب كرامتنا واستقلاليتنا الإنسانية، أن نسمح لعدونا بإثارة الأسئلة والإشكالات على ديننا؟ ونكتفي نحن بموقف المدافع تارة والمتشكك تارة؟
بناء اليقين عندنا يجب أن يبدأ بإثبات وجود الله تعالى، فهذا هو الأصل الذي ينبني عليه كل شيء، وحتى المؤمن بوجود الله تعالى إيمانا عميقا يحتاج إلى تعميق الجذور، فاليقين على درجات وليس درجة واحدة، والإنسان إما مصدق أو شاك أو مكذب، واليقين هو تصديق جازم لا يخالطه شك، ولكن هذا التصديق بدوره على درجات، وأنت حين تصدق بوجود الله تعالى تصديقا جازما حاسما لا يخالطه شك، تكون قد اجتزت الخط المطلوب وأفلتّ من جاذبية الشكوك والتردد.
لكن الناس أيضا يتفاوتون في اليقين في النفوس، وصاحب اليقين بحاجة إلى سقي شجرة يقينه؛ لئلا تجف وتموت، بل لتنمو، وتثمر، وتنفع وتضرب جذورها عميقا، ومن أهم وسائل سقائها، التفكر الذي حثّ عليه ربنا جل وعلا، ومن أعظم التفكر، تأمل أدلة وجود الله تعالى عز وجل
حيث قال تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ۗ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا) (مريم: 76)،
كما أدرك إبراهيم الخليل عليه السلام تفاوت مراتب اليقين، وهو من هو في قوة يقينه، ومع ذلك أراد أعلى درجاته
حيث قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 260)
وذلك بمعنى أنه لدي إيمان ويقين سالم من الشك ولكن ليطمئن قلبي.
قال ابن عاشور في تفسير (ليطمئن قلبي): (ليثبت ويتحقق علمي، وينتقل من معالجة الفكر والنظر، إلى بساطة الضرورة بيقين المشاهدة، وانكشاف المعلوم انكشافا لا يحتاج إلى معاودة الاستدلال ودفع الشبه عن العقل)، يعني كأن إبراهيم عليه السلام يقول: (أريد أن أحكم هذا الأساس - حقيقة البعث بعد الموت -، أحكمه إحكاما، لأبني عليه، ولأنعم ببرد اليقين، ولا تعود بي نفسي إلى فتح الموضوع، والحاجة إلى البرهنة عليه وإجابة التساؤلات).
هذا ويجب أن يكون طريقنا في دراسة أدلة وجود الله تعالى، إحسان الظن بالله تعالى، وأن يكون المقصود منها بالإضافة إلى تعميق اليقين بوجوده، هو أيضا تعميق المحبة لله تعالى واليقين بعدله، وحكمته ورحمته، وكلما نظرنا في أدلة وجود الله تعالى، ثم في أدلة صحة دينه، نزداد يقينا برحمته سبحانه، وأنه أقام كل هذه الشواهد وكل هذه الأدلة، رحمةً بعباده، وسنزداد يقينا بعدل الله تعالى، وذلك حين يعاقب أناسا كفروا به بعد هذا كله، ونعلم حقا أنه ليس للناس على الله تعالى حجة بعد هذا كله ولا عذر، ومن لديهم إشكالية حقيقية في مسألة، لماذا يعاقب الكافر الذي لم يقتنع بوجود الله تعالى أو صحة الإسلام؟ فإن هذا يوقع العبد الموقن بالله تعالى في سوء الظن برحمة الله وعدله.
الإيمان بالله تعالى مركب من تصديق، وأعمال قلب (النية)، وأعمال اللسان (القول)، وأعمال الأعضاء (العمل والفعل)، وهو ليس على درجة واحدة، وهذا كله بحاجة إلى تمكين وترسيخ وسقاء، وذلك يكون بتأمل أدلة وجوده سبحانه، وإعمال القلوب في محبته، واليقين بعدله وحسن الظن بحكمته ورحمته، وإذا كان عندك تصديق، بينما أعمال القلوب مشوشة، والظن ليس بحسن، وفي الصدر حرج، فنور التصديق سيبقى محجوبا، فاليقين بوجود الله تعالى وبأدلة وجوده، يجب أن تكون كافية، شافية، واضحة وملزمة، وذلك لتقوم بها الحجة على الخلق.
واليقين هنا هو قوتك الدافعة لكل شيء والمحرك الذي بحسب قوته تنطلق وتستطيع تجاوز العقبات، وكلما سقيت اليقين تجدد النشاط وتلاشى الفتور، لذلك فأول وصف وصف الله تعالى به المتقين في كتابه الكريم،
حيث قال الله تعالى: (الم ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (البقرة: 3)
فالذين يؤمنون بالغيب، يكون هذا هو المحرك لكل شيء عندهم.
كما أن الثبات والتثبيت في الدين والإيمان مهم جدا، فنحن في زمن هو زمن الفتن، وكم خلعت هذه الفتن أناسا من إيمانهم، وواجب المسلم أن يحصن نفسه، ويضرب جذور يقينه في الأرض ليثبت أمام عواصف الفتن، ويثّبت من حوله.
حيث يقول ابن تيمية رحمه الله: (فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون، ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين، ولا إلى الجهاد، ولو شككوا لشكوا ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفارا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب).
الناس على العموم عندهم إيمان مجمل لكنه ليس عميقا في نفوسهم، لهذا فهم على وجوب تثبيت القناعة واليقين لديهم، وذلك لأننا في زمن الحرب الفكرية التي تضرب الأساس والجذور، لتشكك المسلمين بربهم عزّ وجل، كما أصبحنا كثيرا ما نسمع هذه الأيام عن أناس تأثروا بهذه الشبهات، لكن بالعلو في مراتب اليقين، نتأهل لأن نكون من الأئمة الذين ينصر الله بهم هذا الدين، وذلك حين تلقى أمامنا شبهة عن وجود الله تعالى، لا نتلعثم، أو نتهرب، أو نجيب بعصبية أو بسطحية يفرح بها هؤلاء المشككون، ويحاولون من خلالها إحراز انتصار وهمي على ديننا، ونحن في المقابل يكون عندنا الجواب القاطع الذي يلجم المغرض، ويهدي الحيارى ويشفي الصدور، حيث قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
أما أدلة وجود الله تعالى فتتمثل في إدراك نعمة الله عليك، وأنت ترى الفرق الكبير بين المؤمن بوجود الله والمنكر له، وتستشعر كما لم تستشعر من قبل معنى كثير من الآيات، حيث يقول الله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ) (فاطر:19-22)، كما تدرك بعمق معنى قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ) (غافر:69)، وأنت ترى تبعات إنكار وجود الله تعالى، وكيف يهوي صاحبه في مكان سحيق؛ فيزيد ذلك تمسكك بدينك، وانحيازا له وإدراكا لنعمة الله تعالى عليك.
كما أن أدلة وجود الله تعالى تعمل على إحياء العزة فيك وتعطيك شعور الانسجام مع نفسك، وذلك وأنت تظهر شعائر دينك وتدعو إليه؛ لأنك تدرك أنك على الحق المبين، وأن هذا الذي تظهره وتدعو إليه، كله مستند في الأساس إلى الحقيقة العظمى والعليا التي لا تتردد في صحتها لحظة ولن تحتاج أن تعدل فيها، كما ولن تشعر بالغربة حتى لو كنت تمشي عكس التيار، لأنك أنت الأصل الثابت، ولأنك على هذا الحق المبين، وهذا الانسجام وهذه الرغبة تتمثل في عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ودلالة الناس على طاعته عزّ وجل.