الدليل على وجود الخالق في هذا الكون وهذه الحياة هو كل شيء؛ لأن وجود الإنسان وباقي المخلوقات والكائنات وإتقانها لا بدّ له من خالق، وهذا دليل قاطع لصاحب الحس والقلب والعقل السليم، وقد يقول المتشكك: أنت تستدل على وجود الخالق بوجود الكائنات وإتقانها، لكن لماذا تفترض أن وجود الكائنات لابد له من موجد؟ وهذا افتراض ليس عليه دليل، وصحيح أننا لا نعلم سبب بدء الحياة على الأرض، لكن العلم قد يكشف السبب في المستقبل، وبدلا من افتراض وجود خالق حتى تريح نفسك من التفكير، ابحث عن السبب العلمي لبدء الحياة، ولا تحتج عليّ بـ (قال الله)، وأنا لا أقرّ لك بوجود الله أصلا!!
الجواب هو أنه أنا أحتج عليك بالحجة الموجودة في داخل قول الله تعالى، وأعلم أنك لن تقّر بعبارة (قال الله)، فهذه العبارة لي أنا، ولكن ناقشني بالدليل العقلي الموجود فيما أعتقد أنا أنه قول الله تعالى، وذلك من أنه لابد لهذا النظام الدقيق من فاعل عليم، وقادر وحكيم، حيث قال الله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ) (الطور:35 – 36)، فأنت أيها الإنسان ما الذي خلقك؟ وما الذي أوجدك بعد أن لم تكن؟
الاحتمالات المطروحة هي:
- أن يكون العدم (اللاشيء) هو الذي أوجدك.
- أن تكون أنت أوجدت نفسك.
- أن يكون هناك من أوجدك.
القسمان الأولان واضحا البطلان، فالعدم لا يوجد شيئا، وأنت أيها الإنسان بعد أن توجد، لا تستطيع أن تزيد في بقائك يوما واحدا، وأنت مكتمل الجسم والعقل؛ كما ولا تستطيع أن تمنع مرض وهرم نفسك وموتها، فكيف توجد نفسك من عدم ابتداء؟ هنا بقي الخيار الثالث، وهو أنك أوجدت بسبب خارج عنك، وستقول: (أنا أوجدت من منيّ أبي وبويضة أمي)، هذا السبب بدوره ما الذي أوجده؟ ستقول: أنت ستنتهي إلى آدم الذي خلقه الله تعالى، وأنا سأقول لك: بل خلية تطورت مع الزمن، ولن نتفق.
لكن أيا كان تفسير نشأة الجنس البشري، في النهاية لا بد للسلسلة أن تقف عند حد معين، حتى لو اختلفنا على هذا الحد المعين ما هو، لكن لا بد من وجود هذا الحد (نقطة البداية)، فلا يمكن للأسباب أن تتسلسل إلى ما لا بداية (هذا مستحيل)، أما لماذا التسلسل إلى ما لا بداية مستحيل؟ فهذه بديهية عقلية لا تحتاج إثباتا، وعدم التسليم بها، تصبح هذه مشكلتكم (الإلحاد عموما)، فالتسلسل مستحيل، لأنه يعني ألا يحدث شيء في النهاية، لكن لماذا التسلسل يؤدي إلى ألا يحدث شيء؟
سأعطيك مثالا يوضح لك لماذا؟ تصور أن لدينا أسيرا حكم بالإفراج عنه، فقال الجندي الذي يحرس هذا الأسير: لن أطلق سراحه حتى يأمرني قائدي، وقال قائده: لا يمكن أن آمر بذلك حتى يأمرني قائدي، وقال قائد القائد مثل ذلك... إلى ما لا بداية، فإنه لا يمكن أن يطلق سراح هذا الأسير، فإذا وجدنا أنه قد أطلق سراحه بالفعل، فإنا نعلم يقينا أن السلسلة وقفت عند حد معين، وذلك عند من أمر بإطلاق سراحه دون أن ينتظر من غيره أمرا، وبذلك إذا رأيت أحجار (الدومينو) تتهاوى أمامك تباعا، وتعلم أن كل حجر لا يسقط حتى يسقط الذي قبله، فإنك تعلم يقينا أن هناك من حرك الحجر الأول، ولا يمكنك أن تقول إنه ليس لبدء تهاويها بداية، وتماما في حالتنا، بحيث إن كانت الكائنات لا توجد إلا بشيء قبلها وهكذا... إلى ما لا بداية، فلن توجد أصلا، لكن الكائنات موجودة، فدّل ذلك على أن سلسلة الأسباب انقطعت؛ ووقفت عند سبب أول ليس هناك سبب قبله لوجوده.
هذا السبب الأول هو إما أن يكون وجوده مسبوقا بالعدم، وإما ألا يكون مسبوقا بالعدم، فإن كان مسبوقا بالعدم، فسيحتاج إلى سبب يخرجه من العدم إلى الوجود، وقد أثبتنا أنه ليس له سبب قبله، يبقى أن هذا السبب ليس مسبوقا بالعدم، بل أزلي، لا بداية له، ذاتي وموجود بنفسه لا يحتاج إلى غيره ليوجده، وما ينطبق على الإنسان ينطبق على السماوات والأرض وغيرها من مخلوقات، فليس الجنس البشري هو من أوجد السماوات والأرض بعد عدمها، ولا هي أوجدت نفسها، ولا أوجدها العدم؛ فلا بد لها من خالق.
هنا سيقول المتشكك: حتى لو سلمنا لك أنه لا بد من سبب، سمه السبب الأول مثلا، لماذا تسمونه (الله) وتدّعون له صفات كثيرة؟ الجواب: لأن ما أثبتناه بالنقاش السابق ليس أن هناك سببا أولا فحسب، بل إيجاد هذا السبب للخلق، يدل على أنه متصف بالقدرة، والحياة والإرادة، فلولا أنه حي لما وهب الحياة للمخلوقات، ففاقد الشيء لا يعطيه، وبإرادته أراد أن يوجد الخلق وبقدرته أنفذ إرادته، كما أن إتقانه لخلقه وتفاصيل هذا الخلق، تدل على صفات أخرى أيضا، كالربوبية، والعلم، والحكمة، والرحمة، والعظمة، والقيومية وغيرها.
هذا الخالق ببساطة وبهذه الصفات هو المسمى في المنظومة الإسلامية بـ (الله تعالى)، لذلك فالإيمان بوجود الله تعالى ليس مجرد قضية عاطفية تسليمية، بل قضية برهانية، استدلالية، عقلية، بالإضافة إلى أنها قضية فطرية، وإيماننا بوجود الله تعالى منطلق من استخلاص العلم اليقيني من المقدمات الضرورية، ونحن لا نقول: أنّا نعلم من أحدث الكون، فنفترض وجود الله تعالى لحل ذلك، لا، وإنما نقول: إن الاستدلال العقلي الضروري، يدل على أن الكون لا بد له من خالق أزلي ليس له خالق، وعلى بعض صفات هذا الخالق أيضا، كما ونحن لا نقول: إنّا وجدنا السلسلة في الأسباب تستمر إلى ما لا بداية، فرغبنا في وضع حد لها، فافترضنا وجود الله تعالى، تكاسلا منا عن التفكير، لا، وإنما يقوم استدلالنا على استحالة التسلسل في الأسباب إلى ما لا بداية، لأن نتيجته الضرورية انعدام الوجود أصلا، وهو خلاف الحس والعقل، وعندما يقول الملحد: العلم قد يكشف مستقبلا سبب الحياة، فإننا نقول: مهما اكتشف العلم، فإنه لن يكشف أن العدم أوجد الحياة، أو أن الحياة أوجدت نفسها، أو أن سبب الحياة متسلسل إلى ما لا بداية، ولا ولن يكشف العلم عما يناقض هذه البديهيات العقلية، لأن نقض البديهيات العقلية يؤدي أصلا إلى إلغاء كل شيء وأولها ما يسمى بالعلم التجريبي (المعرفة عموما).