وكنت إذا سألتُه عن حاله قال: ما زلتُ في عبادة، ألا تراني أنتظر فرَجَه سبحانه! وقال لي: إن الله عندما أمرنا بالترقّب "وارتقِبوا إني معكم رقيب" ووعدنا بأنه سيكون معنا رقيباً، وأمرنا بالانتظار "فانتظروا إني معكم من المنتظرين" وأخبرنا أنّه منتظر معنا ليشهد تحقّق قضائه فينا وفيهم، علمنا أن الترقب عبادة رفيعة تصل بنا إلى مقام المعيّة الإلهية، وأنّ علينا أن نتهيّأ بهذا الترقّب والانتظار "فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده"، "لعلّ الله يُحْدث بعد ذلك أمراً"؛ فعجبتُ لجوابه وحضورِ قلبه في هذه المحنة العظيمة، وتفكّرت في كلامه فرأيتُ عجباً.
لقد انعدمت الحيلة الظاهرة والخفيّة عند أهلنا في الثغور المشتعلة، وجثم البلاء الأسود والأزرق عليهم، وانسدّ الأفق بظلام كثيف، وليس أمامهم إلا المجهول الأحمر الذي يروع القلبَ الضعيفَ الذي رُمِي بأرزاء مصبوبة؛ وإنّه من أشقّ ما يعانيه المرء أن تتوالى عليه المصائب، وتتوارَى عنه أسباب الأمل، وتضغط عليه الظروف، وتسوء من حوله الأحوال، وتضيق نفسه حتى لا يكاد يُطيق أحداً ولا يطيقه أحدٌ، ومع ذلك فإنه يجد لنفسه مخرجاً شاقّاً، ويكدّ ليخرج من همّه وغمّه، ويقرر التحرّر من هذه القيود النفسيّة الثقيلة.
تجده يحمل دِلاء الصبر ويستوعب فيها سيول الصدمات المتكاثرة التي تمتصّها كل ساعة من ساعاته، ويحمل دلاءَه إلى بِرَك الصبر ويصبّها فيها، حتى يعتاد العيش حولها ويصيد من أسماكها الغاضبة ويأكلها رغم مرارها وكثرة حسكها، فيتوطّن على المكاره، وتنفتح له مغاليق الشدائد، فتراه إذا أصابه البلاء فإنّه لا يشعر بشدّته، ولا يتأوّه ولا يتشكّى، ويحمد الله ويشكره ويثني عليه الخيرَ كلّه، وكأنّ المصيبة خيرٌ عظيمٌ نزل به، ويعظم اليقين لديه أن الذي يضع المصيبة هو من يرفعها، وليس لها من دون الله كاشفة.
هذه الحالة لم أجد لها تعبيراً يصفها سوى المصابرة، وهي واحدة من أوامر الله وإرشاداته التي لم نفطن لمعناها عند نزول المحنة: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون".
عندما يصابرُ المرءُ فإنه لا يطالع انكشاف الكارثة، ولا يتطلّع إلى ميعاد زوالها، بل ينتقل إلى مرحلة أبعد من ذلك بعدم البحث في ذلك لأنه قد استقرت في نفسه سكينة عميقة بأن الله يمضي أقداره كما أراد، ومن آداب المؤمن عند القبض وانتكاس البسط أن يَسْكن لمجاري الأقدار، وينقاد لقضاء القهّار، ويطمئنّ بصبر الانتظار، ويستصحب معيّة الله الغالب الجبّار.
وتراه مسروراً بما بقي له، راضياً بقضاء الله عليه، حتى كأنّه يعاين زوال الشدّة من شدّة يقينه برحمة الله فيها.
هذه المصابرة فيها مشقّة قاهرة أوّل التلبّس بها، ومحاولة الوصول إليها، ثم لا تلبث أن تفتح قلب المؤمن والمؤمنة إلى باب من السكون البارد واللذّة الناعمة التي تغشاه.
فإذا طال عليكم البلاء، واشتدّت الضرّاء، وسألتم اللهَ كثيراً، ولم تجدوا إجابةً عاجلة فلا تيأسوا، واستصحِبوا نيّة عبادة جديدة، وهي عبادة الترقّب بانتظار الفرج من الله بقطع كل رجاء فيكم إلى الناس، كما في الخبر: "وأفضلُ العبادة انتظارُ الفرج".
وذلك أنّك عندما تنتظر فرج الله وحده فإنّ ذلك يعني أنّك تحسن الظنّ به، ولا تيأس من رَوحِه، واللهُ عند ظنّ عبده به، لا يُخلف ظنّه، ولا يُيئِس عبادَه، ولا يَقنط المؤمن أبداً من رحمة الله التي وسعت كل شيء؛ واعلَم أنّك لستَ كافراً لتيأس من روح الله، ولستَ ضالّاً لتقنط من رحمة ربّك.
إنّ المؤمن في المحنة نقيّ الروح، تراه يصدق بوعد الله "إن مع العسر يسراً"، ويتطلع إلى لطف أقداره وسعة رحمته "إن رحمت الله قريب من المحسنين"، ويسير في ظلّ ولاية ربّه "الله وليّ الذين آمنوا"، ويطمئنّ لحمايته لأوليائه: "مَن عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب"، ويركن إلى نصره وعونه "فسيكفيكهم الله"، ويعلم أن الله لن يخذله، وأن "العاقبة للمؤمنين".
ومن شواهد الثقة بموعود الله وترقّب نصره وغوثه، أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له يوماً: اشتدَّ القحْطُ وقَنَطَ الناسُ، فقال: الآن يُمْطَرون! ، وإنّما أخذ ذلك من قوله تعالى: (وهو الذي ينزّل الغيثَ من بعد ما قنَطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد)؛ وتذكروا وصية رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه لابن عباس: (واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وإن النصرَ مع الصبر، وإن الفَرَج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً).
يا عبد الله المُصابر! إنّك تعيش حقيقة التوحيد، فأنت لم تتعلّق إلا بالله، ولم يَشخَص الأمل فيك إلا إليه، وقد تبرأتَ من حولك وقوّتك، وقطعتَ علائقك بالناس أجمعين، وقد أقررتَ لله بكمال ربوبيّـته، يسيّر كونَه بما شاء وكيف شاء، وكل شيء محكوم بقدرِه، مزموم بأمره.
فارتقبوا رفعَ البلاء، ونزولَ الرحمة، وفيض العطاء، وحلول الغوث، وجميل التعويض، وبركة المستقبل "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون".