تعتبر شخصيَّةً الصديق شخصية قياديَّةً، فقد اتَّصف رضي الله عنه بصفات القائد الرَّبانيِّ، فمن أهمِّ هذه الصِّفات: سلامة المعتقد، والعلم الشرعي، والثِّقة بالله، والقدوة، والصِّدق، والكفاءة، والشَّجاعة، والمروءة، والزُّهد، وحبُّ التَّضحية، وحسن اختياره لمعاونيه، والتَّواضع، وقبول التَّضحية، والحلم، والصبر، وعلو الهمَّة، والحزم، والإرادة القويَّة، والعدل، والقدرة على حلِّ المشكلات، والقدرة على التَّعليم وإعداد القادة، وغير ذلك من الصِّفات التي ظهرت للباحث في الفترة المكيَّة في صحبته للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي العهد المدنيِّ في غزواته مع رسول الله، وحياته في المجتمع.
وظهر البعض الآخر لمّا تسلم قيادة الدَّولة، وأصبح خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد استطاع بتوفيق الله تعالى، وبسبب ما أودع الله فيه من صفات القيادة الرَّبانيّة أن يحافظ على الدَّولة، ويقمع حركة الردَّة، وينتقل بفضل الله وتوفيقه بالأمَّة نحو أهدافها المرسومة بخطواتٍ ثابتةٍ، ومن أهمِّ تلك الصِّفات التي نحاول تسليط الأضواء عليها في هذا المقال عظمة إيمانه بالله تعالى.
كان إيمان الصِّدِّيق بالله عظيماً، فقد فهم حقيقة الإيمان، وتغلغلت كلمة التَّوحيد في نفسه، وقلبه، وانعكست اثارها على جوارحه، وعاش بتلك الآثار في حياته، فتحلَّى بالأخلاق الرَّفيعة، وتطهَّر من الأخلاق الوضيعة، وحرص على التمسُّك بشرع الله، والاقتداء بهديه صلى الله عليه وسلم، وكان إيمانه بالله تعالى باعثاً له على الحركة، والهمَّة، والنشاط، والسَّعي، والجهد، والمجاهدة، والجهاد، والتربية، والاستعلاء، والعزَّة.
وكان في قلبه من اليقين، والإيمان شيءٌ عظيمٌ لا يساويه فيه أحدٌ من الصَّحابة، قال أبو بكر بن عياش: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاةٍ، ولا صيامٍ، ولكن بشيءٍ وقَرَ في قلبه، (ابن حنبل، 1999، ج1، ص173) ولهذا قيل: لو وزن إيمان أبي بكرٍ بإيمان أهل الأرض؛ لرجح.
كما في السُّنن عن أبي بكرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: « هل رأى أحدٌ منكم رؤيا؟». فقال رجلٌ: أنا رأيت كأنَّ ميزاناً نزل من السماء، فوزنت أنت، وأبو بكرٍ، فرجحت أنت بأبي بكرٍ، ثمَّ وزن أبو بكرٍ، وعمر فرجح أبو بكر، ثمَّ وزن عمر، وعثمان فرجح عمر، ثمَّ رفع الميزان. فاستاء لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « خلافة نبوةٍ، ثمَّ يؤتي الله الملك مَنْ يشاء ».(الترميذي، 2288)
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصُّبح ثمَّ أقبل على الناس، فقال: «بينا رجلٌ يسوق بقرةً له، قد حمل عليها، التفتت إليه البقرة، فقالت: إنِّي لم أُخلق لهذا، ولكنِّي خُلقت للحرث» فقال الناس: سبحان الله! تعجباً، وفزعاً؛ أبقره تتكلَّم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإني اُؤمن به، وأبو بكرٍ وعمر» قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وبينما رجلٌ في غنمه إذ عدا الذِّئب، فذهب منها بشاة، فطلب حتى كأنَّه استنفذها منه، فقال له الذِّئب: هذا استنفذتها منِّي، فمن لها يوم السَّبع، يوم لا راعي لها غيري؟» فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلَّم ؟ قال صلى الله عليه وسلم: « فإني اُؤمن بذلك أنا، وأبو بكرٍ، وعمر، وما هما ثَمَّ ».(مسلم، 2388) ومن شدَّة إيمانه، والتزامه بشرع الله تعالى، وصدقه، وإخلاصه للإسلام أحبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم. وأصبحت تلك المحبَّة مقدمةً عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم على غيره من الصَّحابة.
فعن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السَّلاسل، قال: فأتيته، فقلت: أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: «عائشة». فقلت: من الرِّجال؟ قال: «أبوها». قلت: ثمَّ مَنْ؟ قال: «عمر بن الخطاب». فعدَّ رجالاً.(البخاري،3662)
وبسبب هذا الإيمان العظيم، والتزامه بشرع الله القويم، ولجهوده التي بذلها لنصرة دين ربِّ العالمين استحقَّ بشارة رسول الله بالجنَّة، وأنَّه يُدعى من جميع أبوابها. فعن أبي موسى الأشعري، أنَّه توضَّأ في بيته، ثمَّ خرج، فقلت: لألزمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأكون معه يومي هذا . قال: فجاء المسجد، فسأل عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: خرج، ووجَّه ها هنا، فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريسٍ، فجلست عند الباب وبابها من جريدٍ حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته، فتوضَّأ، فقمتُ إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس، وتوسط قُفَّها، وكشف عن ساقيه، ودلاَّهما في البئر، فسلَّمت عليه، ثم انصرفت، فجلست عند الباب، فقلت: لأكوننَّ بوَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكرٍ، فدفع الباب، فقلت: من هذا ؟ فقال: أبو بكر. فقلت: على رسلك، ثمَّ ذهبت فقلت: يراسل الله! هذا أبو بكرٍ يستأذن، فقال: «ائذن له، وبشِّره بالجنَّة». فأقبلت؛ حتّى قلت لأبي بكرٍ: ادخل، ورسول الله يبشِّرك بالجنَّة. فدخل أبو بكرٍ، فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف، ودلَّى رجليه في البئر كما صنع النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وكشف عن ساقيه … .(البخاري، 3674)
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنفق زوجين من شيءٍ من الأشياء في سبيل الله؛ دُعي من أبواب (أي الجنة) يا عبد الله! هذا خيرٌ، فمن كان من أهل الصَّلاة دُعي من باب الصَّلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصَّدقة، ومن كان من أهل الصِّيام دُعي من باب الصِّيام، وباب الرَّيَّان». فقال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: ما على هذا الذي يُدعى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال: هل يُدعى أحدٌ من تلك الأبواب كُلِّها؟ قال: «نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكرٍ! ».(البخاري،3666)