أحسب أنّك الآن متّكِئ على رَفْرفٍ خُضر وعبقريّ حِسانٍ بين يدَي مَن سبقوك من أهل الأثر الذين رافقتَهم من إخوانك السعداء وأهلك الصُّلَحاء، وأنّك تحدّثهم عمّا فاتهم من أحداث هائلة، ومعارك عظيمة، وعن أيّام الله العجيبة، ولابد أن آذانهم ستكون مصغية لك مستبشرةً بما تحكيه ومتوجّعة.
إنّ هذه الأرواح تتزاور في برزخها أوّلَ صعودِها إلى ربّها، وتتذاكر معها، وتسأل الواردين من عالم الدنيا عمّن خلَف وراءهم كيف فعلوا وما فعلوا، وما أخبار فلان وفلان؟ فإن الميت يحيط به مَن مات من أقاربه قبلَه فيفرحون بقدومه أكثرَ مِن فرحة أهل الغائب بقدومه في الدنيا، كما قال ثابت البنانيّ صاحب أنس بن مالك رضي الله عنه؛ وقد روى أبو هريرة مرفوعاً: (إن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء، فتأتيه أرواح المؤمنين فيَستخبِرونه عن معارفهم من أهل الأرض، فإذا قال: تركت فلاناً في الدنيا، أعجبهم ذلك، وإذا قال: إن فلانا قد مات، قالوا: ما جِيء به إلينا) أخرجه البزّار؛ وفي رواية أخرى له: (فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشدُّ فرحاً به من أحدكم بغائبه يَقْدُم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غمّ الدنيا، فإذا قال: أمَا أتاكم؟ قالوا: ذُهِب به إلى أمّه الهاوية) أخرجه النسائيّ.
ولابد أنّهم عرفوا روحك ذات المسك الفائح من هيئة الطير الأخضر الذي تشكّلت على صورته، فالأرواح جنود مجنّدة تتآلف وتتعارف، ولاسيما تلك الأرواح الحيّة السابحة الراتعة تحت ظلّ العرش، فهم قد سمعوا حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: (نَسْمة المؤمن طائرٌ يَعْلُق في شجر الجنّة حتى يُرجعها الله تبارك وتعالى إلى جسده يومَ يبعثه).
وإذا عادت الروح إلى شكلها الأوّل بعد أن تمثّلت على هيئة الطير يردّها الله إلى جسد صاحبها، فتنام نومة العروس لا يوقظّها إلا أحبّ الناس إليها، وهذا الجزاء لها لأنّها أحبّت لقاء الله فأحبّ اللهُ لقاءها.
ألَمْ يحدثنا الله عن السعداء بأنهم (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، وأنهم (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) وأنهم ( يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ)، فهم أحياء عند ربّهم يرزقون، ويتباشرون بقدوم إخوانهم عليهم ولقائهم، ويتلاقون في ملكوت الله الجميل.