﴿وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَٰهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ﴾ "كذلك" هي بصمة القدرة، هي بصمة مشيئة إلهية، توقيع رباني على كل ما جرى، وما يجري، وما سيجري. فما كان بعثهم إلا بمشيئة من لا يعجزه شيء. ناموا ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعًا، ولم توقظهم سوى إرادة الله التي لا يردها ناموس، ولا يقف دونها زمن. فإذا بـ"كذلك" توقظ الأموات، وتنسف قوانين الطبيعة، وتُعيد الحياة إلى العروق اليابسة.
في ظلال هذه الآية الكريمة من سورة الكهف، نلمح دفء العناية الإلهية، ونشمّ رائحة اليقين إذا استقر في القلوب، فنُبعث مع أصحاب الكهف من جديد، لا من نومٍ طويلٍ فقط، بل من غفلة القلب، ومن سبات الطمأنينة الزائفة التي لا تستند إلى معية الله.
إنها القدرة التي لا يُعجزها شيء، فإذا أراد الله أن يرفع عبدًا في نومه، رفعه، وإذا شاء أن ينصر عبدًا في ضعفه، نصره، وإذا قضى أن يُطوى الزمان لقومٍ في كهف، وأن تعبر قصتهم القرون لتُروى في كتابه الكريم، فذلك أمره الذي لا يُرد.
في مواضع أخرى من كتابه الكريم تتكرر "كذلك" لتثبت لنا أن الأمر لم يكن مصادفة، بل كل شيء جرى هكذا لأنه أراد له أن يكون هكذا. في سورة مريم، في أول القصة، جاءت "كذلك": ﴿قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞ وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَيـٔٗا﴾، قال الملك ببساطةٍ مهيبة: "كذلك". وفي قصة مريم العذراء، جاء رد الملك بنفس الكلمة: ﴿قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞ﴾، حين بشّرها جبريل بغلام زكي، وهي التي لم يمسسها بشر، ولم تكن بغيًا. فقالت بدهشة المستحيلات: ﴿أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ﴾؟ فجاء الجواب الرباني الحاسم: "كذلك قال ربك هو عليّ هين". أي: هكذا سيكون، بلا نقاش، بلا طول حديث، لأن المشيئة إن تعلقت، خرست القوانين، وتكسّرت قواعد الطبيعة. يرزق بالسبب، وبضده، وبغير سبب!
في مريم، تعني "كذلك" أن الله لا يُعجزه عُقم، ولا شيخوخة، ولا بُعد عن الأسباب. هي الرد الإلهي على كل "أنّى لكِ هذا؟!" و"كيف؟!" في قلبك. هي مرآة للقدرة في وجه المستحيل، فكانت في الكهف بعثًا من رُقاد، وكانت في مريم بعثًا للحياة. ولعل تكرار ﴿وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَٰهُمْ﴾ يعيدنا إلى أن ما نراه مستحيلًا، قد يكون عند الله بداية قصة أعظم، لأن كل أمر إذا تعلق بإرادته، صار ممكنًا ولو خالف كل نواميس الطبيعة.
إذا أردت لنفسك "كذلك" التي تخرق لك القوانين، فكن له: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾. وإذا أردت لنفسك "كذلك" التي تُخضع لك الكون، فكن له: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾. لا بد من مقارعة للباطل، وثبات على الحق، لا مداراة، لا مهادنة، لا دنية في الدين. هذا فقط من يعطيك توقيع مشيئة رب العالمين: "كذلك".
وإذا أردت لنفسك "كذلك"، فتعلم أدب الخضوع والدموع للرب العظيم: ﴿إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾، خاضعًا لله، مستسلمًا لجنابه، مخلصًا لدينه، تنل: "قال كذلك قال ربك هو عليّ هين". وإذا أردتِ لنفسكِ "كذلك"، فتعلمي: ﴿إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾، لقد اعتزلت قومها، اعتزلت الفتن كلها، فرّت بدينها لربها، اعتزلت قلة الحياء والاحتشام، اعتزلت النسويات والمترجلات، فكان اعتزالها قوة وثباتًا، فكانت: ﴿قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞ﴾.
فاللهم إنا نسألك "كذلك"، ترزقنا بها كما رزقتهم، وتكرمنا بها كما أكرمتهم، وتخلق لنا من رحم المستحيل حياةً وأملًا، لأنك قلت: ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾.