التغيير هو أحد المبادئ التي يصرّف الله بها شؤون الكون والحياة فيه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، ويندرج تحت التغيير سنن منتظمة في سلكه كسنّة التدافع وسنّة التداول وسنة التجدّد وسنّة التمكين وسنّة الزوال وسنّة العلو والإذلال وسنّة الهلاك وسنّة موت الأمم وسنّة الاستبدال.

وسنّة الاستبدال في القرآن من نواتج سنّتي التدافع والتداول، فالنفير من سنن التدافع، والعطاء والإنفاق في سبيل الله من سنن التداول، فإذا لم ينفر المؤمنون ولم ينفقوا فقد حكموا على أنفسهم بسنّة الاستبدال.

وصلاح الأمم وثباتها في مقام الأهليّة يحتاج إلى شجاعة وبذل، فإذا افتقرت الأمم إلى الشجاعة وقصّرت في البذل فقد استحقت الخروج من قائمة الصلاح، وشاهدُ البذل قوله تعالى: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)، وشاهد الشجاعة والقتال قوله تعالى: ( إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا).

ومن ترك نصرة المؤمنين أذلّه الله كما في رسالة ابن تيمية إلى السلطان الملك الناصر محمد ابن قلاوون في شأن التتار: (فمن ترك الـ.ـجـ.ـهاد عذّبه اللَّه عذاباً أليماً بالذلِّ وغيره، ونزع الأمر منه فأعطاه لغيره، فإن هذا الدين لمن ذبّ عنه).

هؤلاء البدلاء قوم يستنفرون إذا استُنفروا، يقتحمون الأبواب على عدوهم، وينفقون مما عندهم ولا يبخلون عند السؤال، أعزة على الكافرين، رحماء بين المؤمنين.

وإذا أردتم فهم معنى الاستبدال فإنه باختصار: إحلال شيء مكان شيء، وقد يكون الإحلال بزوال الأول، أو إبعاده.

والزوال قد يفيد معنى الوفاة وإنهاء الوجود، وشاهدُ هذا المعنى قوله تعالى: ( نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ) فقد أشار هنا إلى أن التبديل قد يكون بالموت، وفي قوله تعالى: (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا)، فهو إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد يشبه أجسادكم ويخالف أعمالكم، وقد أهلك الله من قبل أقوام عاد وثمود وقوم لوط وشعيب وغيرهم: (فكُلّا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

 وقد يفيد الزوالُ معنى الإزالة بنزع صفات الأهليّة والجدارة والاستحقاق، وتسويتهم بالآخرين، وسلب جدارة الخير الذي ينبغي أن يكونوا عليه ونقلها إلى غيرهم، ونقل العزّة والغلبة منهم إلى غيرهم: (غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)، وكما حصل مع بني إسـ.ــ.رائـ.ـيل الذين مكّنهم الله أولاً فقال: ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، ثم نزع منهم التمكين وأدانهم بالفساد العريض: (وقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ).

والإبعاد هو قريب من معنى نزع الأهلية والاستحقاق بتأخير رتبتهم في فضاء الخير والجدارة والريادة، والإتيان بقوم آخرين مكانهم يكونون خيراً منهم، ولا يتّبعون آثارهم وطريقتهم، ومن شواهد ذلك حديث أبي هريرة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً هذه الآية "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" قالوا: ومن يستبدل بنا؟ قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان، ثم قال: هذا وقومه، هذا وقومه!

 وحتى لو كان ثمة خير في بعض هؤلاء الذين كتب الله عليهم الاستبدال فإن شيوع العجز فيهم، وظهور عدم جدارتهم، وانصرافهم عن الاجتهاد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتصافهم بذلك في العموم شؤم عليهم، يسلبهم هذه الأهلية، وهذا ما نفهمه من جواب رسول الله لأمّ المؤمنين زينب بنت جحش: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)، ومثله حديث: (إِذا ظهر السّوءُ في الأرض، أَنْزَلَ اللهُ بأسَه بأهل الأرض)؛ وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه مما سمعه من رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه: ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه)، وهل ثمّة منكر أشد من وجوب النصرة وتعيّنها ثم لا تجد نصيراً رغم القدرة!.

وزوال هذه الأهليّة بالتولي عن أمر الله ونصرته، ويكون: بعدم استقامتهم على أمره وقيامهم بالحقّ، ويكون بالعجز عن الشهود والبلاغ، ويكون باشتداد الغفلة فيهم وعدم ظهور الرغبة في التغيير، ويكون بعدم البراءة من المشركين والطاغين، ويكون بالتولي يوم الزحف، ويكون بالكيد للمؤمنين وتتبّع عثراتهم، ويكون يعدم الإنفاق في سبيل، ويكون بتمكّن السخط والجزع وشتات القلب فيهم، ويكون بإعراضهم عن الأولويات الواجبة وانصرافهم إلى الثانويات المندوبة والاكتفاء بها، ويكون بخذلان من وجبت نصرته والتباطؤ في ذلك، ويكون بعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولاسيما المعروف العظيم والمنكر العظيم... وفي كل ذلك شواهد من آيات الكتاب المبين.

والجهة المستهدفة بالاستبدال قد تكون مجتمعاً عامّاً راضياً بواقعه غير عامل على تغييره أو مجتمعاً خاصاً كحزب أو جماعة أو فئة، أو دولة وسلطةً، تراهم متقاعسين متثاقلين خالدين الأرض لا يجتهدون في أمر فيه مشقّة عليهم ولو كان واجباً أكيداً. 

مثل أولئك العصاة الذين خذلوا رسول الله في تبوك وتركوه ولم يشخصوا معه رغم وضوح القضية ووجود الأمر النبويّ: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا)؛ وقد قرّعهم الله تقريعاً شديداً: (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون)

وعندما يقول ربنا (ويستبدل قوماً غيركم) بعد إهلاككم ويصفهم بأنهم "غيركم" سنستشعر شدّة الوعيد والتهديد بتأكيد هذه المغايرة في ذواتكم وأوصافكم، واستلزام الاسئصال بالهلاك، ليأتي بعدكم قوم طائعون ليسوا منكم وليسوا على أوصافكم، والله على كل شيء قدير.

 إن الاستبدال عقوبة معنوية قاسية تصيب أولئك الذين تخاذلت أرواحهم، وقد ذكر أبو الوفاء ابن عقيل في كتاب الفنون أن قارئاً قرأ قوله تعالى: {إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم}. فقال حنبلي: عظُمت واللهِ عقوبةُ الاستبدال، وأَرْبَت على العذاب، لأن الاستبدال صرفٌ مؤيسٌ من الرد إلى الاستخدام؛ وحكى أيضاً أن رجلاً زَمِناً أي عاجزاً زحف مع النفير، فقيل له: إلى أين؟ قال: سمعته يقول: (إلا تنفروا أو يعذبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم)، لو كان العذاب بغير استبدال هانَ، ولكنّ عذابَ الاستبدال لا صبر عليه.