نشرتُ هذا المقال أولَ مرةٍ عام 2008 ، وأعدتُ نشره عام 2016 ، وها أنا أعيدُ نشرَهُ الآن لأهمية التذكير بالكبار أصحاب المنهج والرؤية... وقد فاتني؛ من باب الاعتراف بفضل من له فضل علينا؛ أن أنبه في المرتين السابقتين إلى أن أول من عرفني بهذا العملاق هو أستاذنا فضيلة العلامة الدكتور أحمد نوفل حفظه الله .  

  نصيحةٌ لوجه الله ، بِمُجرَّد أن تُنهيَ هذا المقال تَوجَّه لأقرب مكتبةٍ وابتع أيَّ كتابٍ تجده لهذا الرجل، ولا مانع ـ إن استطعت ـ أن تبتاع كل كتبه! ولن تندم، أعدك بذلك، قد تـتـفق مع الرجل، وقد تختـلف، لكنني أعدك بأنك لن تندم، خاصةً إذا كنتَ حيَّاً!!

ومن أجل أن تُدرك حجمَ خسارتك إن عصيتـني وخالفت رغبتي إليكَ، فاقرأ شيئاً مما كتبَ، لعلك تستدلُّ من الجزء على الكُـلِّ، ولعلَّك تقول: كم خسرتُ، كيف لم أقرأ لرجل يقول مثل هذا الكلام؟، يقول جلال كشك رحمه الله:

".. والذين يتوقعون أن تحدث المعجزة.. فينتصرون بالمفاوضات، وقد هُـزِموا في الحرب.. لن يروا المعجزة، بل سيصيبهم المَسخ...لأنهم يُعارضون القانون الإلهي، يعارضون قوانين الكون، ويتجاهلون خبراتِ الشعوب…إنسانُ الهزيمة لا يَقوى إلا على صُنع المزيد من الهزيمة مهما تمنَّى ومهما ادَّعى. إنسانُ الهزيمة يتحدث عن التغيير في كل شيءٍ إلاّ في ذاته.. فلا يُغير شيئاً على الإطلاق.أمَّة الهزيمة تُـفـتِّـش عن الخلاص في كل شيءٍ إلا في ذاتها.. فتهوي من هزيمة إلى هزيمة.. إنسانُ الهزيمة، ما زال يبحث عن السلاح ويُكدِّسه، تماماً كما كان الفأر يطلبُ جلد النَّمِر.. حتى نفضَ الحكيمُ يديه منه، يائساً.. "ما جدوى أن أُلبسكَ جلد النَّمر.. وبين جَنبَـيْـك قلبُ فأر؟!"

"إنها عبرة التاريخ كلِّه .. التغيير يبدأ في ذات الإنسان أولاً"  النَّكسةُ والغزو الفكري؛ ص10 .

ويقول ـ رحمه الله ـ في مكان آخر: "والخلاف حول تـفسير التاريخ ليس ظاهرة ترفٍ، ولا هو مجرد خلافٍ حولَ تفسير الماضي، بل هو في الدَّرجة الأولى خلافٌ حول الطَّريق إلى المستقبل.. والأمم دائماً تهرع إلى تاريخها، في لحظات مِحنتها تستمدُّ منه الإلهام والدَّعم النَّفسـي، بينما يلجأ خصومها دائماً إلى تزييف التاريخ وتشـويهه لتضليل الحاضر وإفسـاد الطريق إلى المسـتقبل".  ودخلت الخيل الأزهر؛ ص16.

محمد جلال كشك عظيم من عظماء هذه الأمة، غـيَّـبَه الإعلامُ المُوجَّه ، والصَّحافةُ المأجورة، أو الجاهلة التي تـتـبع كلَّ ناعق!

جلال كشك أحدُ الذين تكلَّموا عن الأصنام زمن عُـلـوِّها؛ أيام كانت "تُـرْعَى وأمرُها مأتيُّ". وهو الذي أخذ على عاتـقه كـشفَ واحدٍ من هؤلاء؛ "الحكواتي"، صنم الصحافة الغبية، وأحد أكذب من نطـق بالضاد، وبلغة شكـسبير أيضاً، مُزورُ بـل مؤلـفُ الـتاريخ ، صاحب الـتاريخ "البلاستيك" كما وصفه محمد جلال كشك، أعني محمد حسنين هيكل، الذي لا زال يستمع له المغفلون! (أما الآن فقد ماتَ وارتاحَ الكذبُ منه). 

محمد جلال كشك، عندما تقرأ له تـتيقن أنه لم يُمسك بالقلم إلا بعد أن ألمَّ بالموضوع من أطرافه، فهو لا يكـتب إلا عن اطِّلاعٍ واسعٍ، ثمَّ إنه ألزَم نفسه بألا يكتب شيئاً دون توثيق، فكل دعوى يسوقها تكون موثـقة عمن ادعاها عنه.

محمد جلال كشك يكتب بِحُرقةٍ، تشعر بها وأنت تقرأ له، تكاد تحرقـك بوهجها، ولأنها لا تكفي وحدها مؤهلاً للكاتب الحقيقي، فإنه يكتب بِحرَفيةٍ وإتـقان لا تكاد تجدهما عند أغلب من يُسمَّى كاتباً!

إنَّه مُنحاز حتى النخاع لأمته، لكنه ليس انحيازاً متعصِّباً، بل انحيازٌ عن يقين، وبحثٍ ودراسةٍ، فقد بدأ حياته شيوعياً، ولكن عقله وأُفُقَـهُ الواسع لم يقنع بها منهجاً، فانطلق كما قال عنه أحدُ الصَّحفيين: "يبحث عن مُنقذ؛ عن الفكر الذي يبني الأمة ، ويواجه بها تحديات العصر". 

يعني أن الرَّجل لم يحمل مرغماً ما وُلد عليه، بل إنَّ كلَّ ما كتبه يُعبِّر عن قناعةٍ لديه، لا يتـاجر ولا يُداري، بل يكتب ما تُـوصله إليه أبحاثُـه . ومِن كُـتِبه تعرف أنَّ الرَّجل موسوعيٌّ يحترم قارئِهَ، لأنَّه يحترم نفسه.

إنه من القلائل الذين أرجعوا الأزمة التي نعيشها إلى أسبابها الحقيقية، فهو لم يقف عند الظواهر، والنتائج، بل غاصَ في التاريخ باحثاً ومُنقباً. ولا أظنُّ أنَّ كاتباً أو عالماً حلَّـل تاريخ حملة نابليون، ونتـائجها على الأمَّـة كما فعـل محمد جلال كشك، ولـذلك فإنَّ كـتابه الرائع: 

"ودخلت الخيل الأزهر" يصلُح لأن يكون وثيقةً تأريخيةً تحليليةً لتـلكَ المرحلة ، لقد تـفوَّق محمد جلال كشك على نفسه في هذا الكتاب، وإنِّي إذ أنصح بالدخول إلى عالم هذا الرجل ، أنصح بالبدءِ بهذا الكتـاب.

إن الرجل ليس مجرد كاتب، بل هو بحق ودون مبالغة، شاهد على عصره، إيجابي التعامل والتفاعل معه. ولا أدري كيف يسوغ لمن يكتب أو يعمل في النَّهضة والإصلاحِ أن يفعل كل ذلك دون أن يقرأ لهذا الرجل ، نعم.. لا أن يقرأ ما يكتبه، بل يقرأه نفسه، لأنه صاحب همِّ ، ورؤيةٍ، ومن كان كذلك فإنه يقرأ هو وما كتبه.

وُلد محمد جلال كشك سنة 1929، وتوفيَّ سنة 1993 إثـر سكتـةٍ قلبية، وهو يُناظر نصر حامد أبو زيد، أحد المُعاقين المُستـغرِبين من طلائع الغَزو الفكريِّ. يناظره ليثبت له أن "التًّقدميَّة هي موقفٌ من حركة التَّاريخ"، وليست شعارات و(كليشيهات) جاهزة لذر الرماد في العيون، وإسكات المعترضين. ولا عجب أن يسكت قلب هذا الكبير بعد هذه الرِّحلة الصَّعبة، وهذا الجهاد الطَّويل مع جيوش التّـَخريب والعمالة المُـندسِّيـن في قـلب هذه الأمَّة! 

ثم دعونا نفهم أن تزكية أحدٍ لا تقتضي الاتفاق معه على كل ما كتب! فالذي قال الكلام أعلاه يختلف مع الأستاذ رحمه الله في بعض أفكاره! ولا ضير فكلُّ رادٌّ ومردودٌ عليه.