لا تسألوها عن الصبر، فإن الله قد أفرغ عليها صبراً جميلاً، ألا ترون الأمّ الطبيبة آلاء النجار وهي تتلقّى الصدمة باحتراق أولادها الصغار بقنابل الأوغاد، تقول: "هم أحياء عند ربّهم يُرزقون"!
لقد آمنت بأنّهم قد انتقلوا إلى حياة أخرى، وأنّ الله قد رفعهم من جحيم الواقع إلى محطة هادئة لا خوف فيها ولا جوع ولا نصب؛ ولابدّ أن تكون راضية بهذا الانتقال الذي قضاه الله، وهو الحكيم الخبير.
الاختبار الكبير تنجح فيه آلاء، وتَعْبر منه إلى فضاء من النور في عالم الرضا، وترى فيه مصاعد من نور ومعارج من ضياء يمكنها أن تترقّى فيها إذا تجاوزت مرحلة ما بعد التصبّر بالتعزّي والمصابرة والحمد على البلاء، عندما يُعاد عليها شريط الموت الأزرق والأبيض الذي أخذ أطفالها بعنوةٍ، وقذف بهم في أتون المحرقة، فشوّه وجوههم، وسحق أطرافهم، وعجن عظامهم، ولم يترك لأمهم الثكلى موضعاً تطبع فيه قبلة وداع على جبهة أحدهم.
لربّما كانت تقول لنفسها: إنّ لديّ عشرة من الولد، فإذا أخذت الحربُ منهم واحداً فسيبقى لي تسعة، وإن أخذت اثنين فسيبقى لي ثمانية... ولكن ذلك القاتل الأجنبيّ الغريب القابع في طائرته المجنونة أو مدفعيته العمياء، أبَى إلا أن يضغط على زرّ الإبادة ضاحكاً ليأخذ منها كل عائلتها إلا آدم الذي قذفته الرجفة بعيداً، وكسرت عظامه.
هم تسعة من العصافير والفراشات: يحيى، وراكان، ورسلان، وجبران، وإيف، وريفان، وسيدين، ولقمان، وسيدرا الصغيرة. أكبرهم قد جاوز العشرة بعامين، وأصغرهم قد انحدر عن السنة بستة أشهر، وبين كل واحد والآخر نحو عام. اعتنت بهم أمّهم وقرّبتهم من القرآن، وجعلتهم على طريق الحافظين، ومسار المتفوقين المتميّزين، ونثرت الورود على أكنافهم.
كانت ملهوفةً تبحث عن زوجها الطبيب الذي كان معها قبل ساعات، لتجده مُعفّراً بجراحه، قد نقلوه إلى العناية المشددة التي توازي الآن غرفةَ انتظار. فتوزّع جزَعُها بين زوجها المثخن بالجراح، وأولادها المكفّنين، وقد غُطّيت جثامينُهم لكيلا تنطبع صورتهم في عيني أمّهم التي تكاد تبيضّ من الحزن، لولا أنْ ربط الله على قلبها ساعةً.
لعل الله جبَرها بكلمة أنقذتها من أعماق فتنة الفقد العظيم، فأرسل لها وحياً يهمس في قلبها المفطور: تركتُ لك آدمَ، فلا تشتدي في الأسف والجزع، فإنه جابرٌ لقلبكِ، محتاجٌ لروحكِ، فضمّي يدكِ إلى عنقه، واحمليه إليكِ، فإنّ لكِ عند ربّك منزلاً سينسيكِ كلّ هذا الوجع، وستنغمسين في بحبوحة الرضا، وما أعدّه الله للصابرات والمصابرات.
وسيكتب الله آثار ثباتكِ أيتها الطبيبة، وسيفتح لك معارج النور، فاستضيئي حتى تلقَي عصافيرك وفراشاتك!