مرت الحضارة الإسلامية بالكثير من المراحل التاريخية حتى أصبحت كما هي عليه اليوم، ما بين نهضة وانهيار، وسيادة للعالم واستعمار، وما إن يظهر للعالم أن الأمة الإسلامية على وشك السقوط حتى يهيئ الله لها رجالًا وقبائل يحملون همّ الأمة ويعيدون لها مجدها التليد.
وعلى الرغم من الانهيارات المتعددة التي خرمت جسد الأمة الإسلامية على مدى عقود، إلا أنه وجد الكثير من المفكرين والمصلحين ممن حاولوا إعادة بناء الأمة والسعي لتتصدّر الأمم كسابق عهدها، ليس لأنها حاملة خاتمة الرسالات السماوية فحسب، بل لأنها المنقذ للبشرية من المادية التي بسطت ردائها عنوة على الأمم والشعوب.
ويهدف هذا المقال لفهم نظرية الدكتور عبد الحميد أبو سليمان - رحمه الله تعالى - التي ركزت على الأسباب التي منعت نجاح النهضة الحضارية الإسلامية، وقدمت الحلول لإحداث التغيير الحضاري الإسلامي.
مشروع الإصلاح الحضاري.. من أين يبدأ؟
انطلق الدكتور أبو سليمان - رحمه الله تعالى - في نظريته من محورية الطفولة كبعد رئيس لنجاح مشروع الإصلاح الحضاري للأمة؛ ورأى في نظريته أن هناك سببين رئيسين لإهمال دور الطفولة من مشروع الإصلاح الحضاري، السبب الأول يكمن في الخلل الذي أصاب منهج الفكر الإسلامي وذلك بتغييب البعد المعرفي الشمولي التحليلي. أما السبب الثاني فكان في غياب الخطاب النفسي التربوي السليم الضروري لنمو البعد الوجداني الفعال في نفس الطفل المسلم.
كما أكد الدكتور أبو سليمان - رحمه الله تعالى - أن الفكر الإصلاحي على مدى عقود لم يلتفت إلى قضية الطفل كوسيلة لإحداث التغيير؛ على الرغم من أن أفضل طريقة للإصلاح المنهجي للمعرفة الإسلامية وإعادة بناء الشخصية المسلمة تكون ببناء الطفل وتنشئته، لما يحدث في مرحلة الطفولة من عمليات التغيير والبناء النفسي والجسدي والوجداني؛ وذلك لأن الكثير من الجهود الإصلاحية لم تحقق متطلبات التغيير الجذري، ولم تدرك أسّ الداء، ولم تتمكن من تحقيق المقاصد - على الرغم من صحتها - في إصلاح البناء الفكري والنفسي ولم تحرك كوامن طاقة الأمة لسد فجوة الأداء والقدرة والحضارة بينها وبين الأمم المتقدمة.
ورأى أن الفكر الإسلامي لم يدرك بُعد التغيير في النفس الإنسانية، وأنه أفضل مدخل للإصلاح الحضاري، وذلك لعدم الالتفات إلى الطفل كوسيلة لإحداث هذا التغيير لعدة أسباب أثرت بشكل أو بآخر على هذا البعد الهام ومن ضمنها انقسام التربية والتعليم إلى تعليم الخاصة والذي كان يمتاز بنوع خاص من المعاملة والحفاظ على الكرامة من مؤدبيهم التزامًا بتوصيات ونصائح مقدمة من الصفوة، وتعليم العامة الذي كان يتم في الكتاتيب، وكانت على قدر كبير في انحطاط مستوى معلميها واستخدام العقاب الجسدي والذل وامتهان الكرامة، وأدى هذا التمايز إلى انحطاط ثقافة أبناء الأمة، وبالتالي ساهم هذا بشكل أو بآخر في انهيار الأمة الإسلامية.
كما أن من الأسباب التي ذكرها الدكتور عبد الحميد - رحمه الله تعالى - إهمال سن التأثير وإغفال البناء النفسي والوجداني للأطفال والتركيز على التأثير في البالغين -سببه غياب الوعي بأساس الإصلاح- وذلك أن الإدراك العقلي لدى البالغين ليس كافيًا لتحريك وجدانهم والذي يؤدي تلقائيًا إلى ظهور هذا الانفعال في أفعالهم وسلوكهم وعطائهم، وهذا لا يحدث مع البالغين على الرغم من الجهود الصادقة والمحاولات الحثيثة لإحداث هذا التغيير في نفوسهم بسبب إهمال مراحل التكوين الأولى لشخصية الطفل المسلم.
إن إحداث التغيير في الأمة يحتاج منا إلى صبر ومصابرة، وجهد وجهاد لإعادة بناء الحضارة الإسلامية، بالعمل على إعداد الناشئة عقليًا، ووجدانيًا، وفكريًا، والحرص على إحداث التغيير على مستوى القلب والوجدان، ولا يتأتى ذلك إلا بإدراك علوم الطبائع وعدم التعجل في حصول الأثر.
ما هي أسباب إنهاك الأمة وانهيار حضارتها؟
كما بيّن الدكتور أبو سليمان - رحمه الله تعالى - أن من الأسباب المؤدية إلى إنهاك الأمة غياب البعد الجمعي في تكوين الشخصية المسلمة، وما له من آثار سلبية على المدى البعيد، والجانب الجمعي يرتبط ارتباطًا طرديًا بفكر المجتمع وثقافته ومناهج التربية فيه؛ ولهذا لا غرابة أن تظهر الدعوات المطالبة بالفردية وحق الفرد حتى لو كان على حساب المجتمع أو الأمة لأسباب عدة، منها التأثر بالغزو الفكري الغربي، وتأثر ما بعد الاستعمار، وتبني الكثير من الزعماء والمفكرين للرؤية الغربية المادية دون تنقيح أو اختيار لما يناسب أو لا يناسب الأمة وكلياتها وخصائصها الفريدة؛ مما أدى إلى تأصيل السلبية الاجتماعية واستمرت معها قدرات الأمة في الانحطاط.
ومن الأسباب أيضًا التركيز على الجانب المعرفي من حفظ واستظهار - والذي لا يجب أن يكون غاية في حد ذاته، وهذا يظهر جليًا في نظام التعليم الحالي - في بناء شخصية ذات طابع محدود مقيد، ونفس عاجزة لا ترنو للإبداع، ولا تسعى للتغيير، بل قد تنزع من نفس الطفل الكرامة، والحرية، وتهوي به إلى غيابات الذل والخنوع فلا أمكنه الدفع عن نفسه، ولا الذود عن أمته ساعة العسرة. ولا يعني هذا أبدًا تغييب الجانب المعرفي، بل لا بد أن يكون وسيلة لبناء الجانب النفسي والوجداني والروحي في نفس الطفل.
أيضًا أدى ضعف الخطاب الإسلامي وتحوله إلى خطاب نظري بشكل أو بآخر إلى انهيار الحضارة الإسلامية، ولعل من نتائج ضعف الخطاب الإسلامي خلط الأبعاد والمجالات، وعدم مراعاة تعدد المخاطبين والحاجات، وتعدد أبعاد الوجود التي تؤثر في نوعية الخطاب المقدم، وكان من نتائج التوظيف السيء لقدسية الخطاب الإسلامي باستخدام الإرهاب الفكري أن تكونت نفسية العبيد؛ وأدت هذه الأزمة النفسية إلى إقعاد الأمة عن الإصلاح والتجديد ومواجهة التحديات.
في طريق نهضة الأمة
قدّم الدكتور أبو سليمان -رحمه الله تعالى- طرحًا واضحًا ودقيقًا لأهم الأسباب المؤدية إلى انهيار الحضارة، كما وضّح الحلول المناسبة للاستفادة من الجهود والإصلاحات في طريق نهضة الأمة، نلخصها في:
- فهم التحديات ومواجهتها من خلال التحليل العكسي لمعرفة أوجه القصور ولب التحديات، لتتمكن الأمة من استعادة القدرة على أداء دورها الحضاري؛ ومن أهم التحديات كما أشار إليها الدكتور - رحمه الله تعالى - امتلاك القدرة العلمية التكنولوجية.
- معرفة طبيعة الإشكال الثقافي الذي أدى إلى صراعات بين مثقفي الأمة، والعمل على التمهيد للحوار بينهما على أساس منهجي، ومن منطلق الثوابت التي يتفقون عليها، ويمكن عمل ذلك من خلال إيجاد جيل جديد من المثقفين الذين يتحلون بعلم الوحي وتمكينهم ناصية الحوار والتعاون المثمر.
- العمل على حل الإشكال التربوي بالتأكيد على أهمية البعد التربوي للطفل، والذي غُيّب دون وعي، لأسباب عدة منها الصراعات السياسية وغياب أهمية بعد الطفولة من أذهان المجددين والمصلحين.
- فهم الرؤية الاجتماعية الكلية، والتي ستمكن من ارتقاء الفكر التربوي، وبالتالي زيادة الوعي لدى المربين والمفكرين بأهمية الطفولة كبعد أساس في بناء ونهضة الأمة.
- إدراك الثوابت والمتغيرات في منهج تربية الطفل المسلم، والاستفادة من الخطاب النبوي للطفل في غرس قيم الكرامة والعزة والشجاعة في نفس الطفل انطلاقًا من السنة الفعلية للرسول صلى الله عليه وسلم.
- إلغاء عقلية التسلط والاستعلاء، ببناء مبادئ الإسلام في نفسية الطفل، وتقوية البناء العقدي الوجداني في أصل تنشئة الطفل.
- بناء العلاقات المثمرة المبنية على الحب بين الطفل والمربي، مع فهم قواعد الحرية والانضباط في التربية، والحرص على سلامة نفسية الطفل والمحافظة على كرامته الإنسانية.
- معرفة المربي لمراحل النمو ومتطلباتها لدى الطفل، فلكل مرحلة عمرية ما يناسبها، وتمكن المربي من تنمية قدرات الطفل وتكوين عقليته ونفسيته ووجدانه.
- فهم المربي لأفضل الأنماط الوالدية في التربية، والحرص على التعلم والاستفادة من الخبرات التربوية الإيجابية ممن يُعتقد فيهم الصلاح؛ ووضع الأهداف التربوية والخطط المحققة لها بما يتوافق مع الرؤية النبوية لبناء الإنسان مما يسهم في نهضة الأمة الإسلامية.
- اتصاف المربي بالصفات التي تؤهله لبناء الشخصية السوية، وذلك أن المربي إنما يتعامل مع أصل طبع الإنسان وفطرته، ويعمل على توجيه طاقة الطفل الوجدانية من خلال البناء النفسي السوي للطفل، ولا يمكن لأحد القيام بهذا إلا إن امتلك الصفات التي تؤهله للقيام بهذا الدور العظيم، ومن هذه الصفات: التسلح بالعلم والمعرفة، فالحب دون معرفة لخصائص الطفل ونفسيته قد يتسبب في ضياع الطفل؛ والعدل، وهي الصفة الثانية من صفات المربي، وهي محك مصداقية مشاعر المربي نحو الطفل؛ الحلم والصبر ثمنٌ يدفعه المربي ليتعلم الطفل ولينمو نموًا سويًا.
- حسن اختيار المعلم وإظهار احترامه أمام الطفل، لأن الطفل يرى في المعلم قدوة له ونموذجًا يُحتذى به، وما يُظهره المجتمع والوالدان للمعلم من تكريم واحتفاء يبني في نفس الطفل حب العلم والتعلم وتقدير العلم والعلماء.
- إن أعظم استثمار في التربية السوية يكمن في حسن تربية الأمهات وبناؤهن نفسيًا ووجدانيًا وعقديًا، ورفع مكانة الأم في المجتمع وتقديرها يمكنها من أداء دورها التربوي ورسالتها في بناء الأمة على أتم وجه وأفضل حال، والتاريخ يحدثنا كثيرًا عن أمهات صنعن أبطالًا ورجالًا كانوا سببًا في نهضة الأمة، وخير مثال لحاضرنا أمهات ونساء غزة.
ختامًا، كما قال الدكتور -رحمه الله تعالى-: إن الاعتماد على النفس وعدم انتظار (المنقذ) والسعي الجاد من قبل المفكرين والمربين والمثقفين في القيام بأدوارهم في تقديم الرؤية الحضارية الإسلامية، وتنقية ثقافة الأمة، والتبصير بأمراضها الوجدانية، والبدء في إصلاح الذات معرفيًا ووجدانيًا من أهم ما يجب القيام به لمساعدة الأمة في نهضتها، والقيام بدورها الإنساني والقيادي في العالم.