يمثل الصراع العلماني مع المنظومات العقيدية الغيبية واقعا معاشا طيلة قرنين من الزمان، وإن كان قد استتب الأمر للمنظومة العلمانية في الغرب فإن الحال مختلف في العالم الإسلامي، فلا تزال محاولات إرساء طرحها الشمولي الذي يغطي جل الفضاءات السياسية والاجتماعية ويصل حتى إلى المنظومة الأخلاقية والقيمية، في أشكال وتمظهرات صريحة أو مستترة، رجاءَ التمكن من دقائق الحياة والهيمنة على الأفكار والتصورات. حتى يستغني الإنسان عن وحي الإله ليقتصر مصدر معرفته للحقيقة والقيم حصرا من خلال العالم، وهذا في قطع صريح للصلة مع كل متجاوز. 

وبما أن للعلمانية خلفية ميتافيزيقية بشكل جذري، فلها أيضاً ارتباط بالدين وباللاهوت، وقد قرر وائل حلاق أن الإرتباط الأول متعلق بالأديان التقليدية وإعادة تشكيلها، والثاني عبر خلق نظام لاهوتي جديد، فهي في الحقيقة تقرر للدين شكله في النظام العام، وتتملك دون غيرها ميزان القبول والرفض للممارسات الدينية، وقد قال كارل شميت أنها "الإله الجديد" الذي يقرر أفعال الخاضعين تحته!

ولا يعسر ملاحظة حقيقة كون العلمانية قد جاءت لتفاصل الدين، لكنها ما لبثت أن تموضعت وشكلت دينا جديدا! والوعي بحقيقتها اصطلاحا وتاريخا مما يعين على تحرير مواضع النزاع في العالم الإسلامي خصوصا.

ومن أراد أن يتعامل مع ضبط المصطلح ودلالته والجدل الواسع في التعريف ومساحته والجانب المتحرك فيه وكذا نواته الصلبة فعليه لزاما أن يقرأ في المكتبة والمصادر الغربية، وهذا الأمر ينسحب على جميع المصطلحات الوافدة.

وقد ارتأينا في هذا العرض أن نقدم لكم جملة من الكتب المركزية العربية التي تناولت العلمانية بالتدقيق والتفكيك والتحليل، مع بيان مظاهر التطبيق والتنفيذ وحرصنا على تعدد زوايا معالجتها للظاهرة واستنادها إلى قائمة كبيرة من المصادر والمراجع الأصلية.

1- «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة».. هل تتسرب إلينا لا شعوريا؟ 

يشار إلى المفكر المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري على أنه الرجل الذي جاوز سطحية من قبله وغاص في أعماق الحداثة الغربية وماديتها ومنتجاتها الفكرية فاحصا ودارسا ومفككا.

فاكتنف مشروعه الفكري أضلاعا رئيسية لعل أهمها دراسة وتفسير الظاهرة اليهودية معرفيا، وكذا نقد الحداثة الغربية عبر نموذجه التفسيري الخاص، فكان من جملة ما كتب كتابه ذائع الصيت «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» والذي بسط القول فيه حول حقيقة العلمانية فلسفيا وإجرائيا.

وكان لخلفيته الماركسية التقليدية الأولية دورٌ في تعرفه على المدرسة الفرانكفورتية وماكس فيبر الأمر الذي عزز العقلية النقدية له واستصحبها في مشروعه الفكري عامة كما استثمر أدواتها (أي مدرسة فرانكفورت) وطورها وخصبها، إلى جانب دراسات زيجمونت باومان التي ساهمت كثيرا في تطوير النموذج التفسيري الذي جاء به. 

لقد عارض المسيري تبسيط الإجابة عن ماهية العلمانية كونها "فصل الدين عن الدولة"، وهذا باعتبار تداخل نوعين من التعريفات الوردية المعبرة عن الأمل والتوقعات التي تملأ صفحات المعاجم، وما هو كائن على أرض الواقع والأحداث، حيث أن الاستقرار على تعريفات أواخر القرن التاسع عشر قد أحدث خللا في الفهم والاسقاط لتغير المدلول وما يحمله.

ثم أعمل نموذجه التحليلي الذي أسهب في بيانه في كتاب "رحلتي الفكرية" لإعادة تعريف العلمانية انطلاقاً من الواقع المتحقق فجرد النموذج الكامن وراء المصطلحات التي تستخدم لوصف المجتمعات العلمانية الحديثة، مستخلصا وجود انتقال من الإنساني إلى الطبيعي المادي وهو ما يشكل "سقوطا في الفلسفة المادية".

وعلى ضوء هذا قام بالتفريق بين علمانيتين، إحداها جزئية والأخرى شاملة، فأما الجزئية فهي التي يعرفها بالتعريف المشهور بأنها فصل الدين عن الدولة إذ تعتبر رؤية جزئية للواقع لا تتعامل مع الأبعاد الكلية والمعرفية، وأما الشاملة فهي رؤية شاملة للكون بكل مستوياته ومجالاته وتمس جوانب الحياة العامة والخاصة فتحيد عنها الدين والقيم المطلقة والغيبيات، لتفرّع عنها نظريات ترتكز على البعد المادي للكون بحيث يتحول العالم (الإنسان والطبيعة) إلى مادة استعمالية.

والفرق بينهما في الواقع هو فرق بين مراحل تاريخية لنفس النموذج فهي حلقات في نفس المتتالية.

ولطالما أشار الدكتور إلى العلمنة البنيوية الكامنة باعتبارها من أشكال العلمنة الأكثر شيوعا وانتشارا، وذلك لتسربها وتتغلغلها بيننا لا شعوريا من خلال منتجات حضارية وأفكار متداولة ظاهرها البراءة من ثنائية العلمنة والإيمان! 

يذكر أنّ هذا المنتج الفكري اشتمل على مجلدين، اعتنى الأول بالأبعاد النظرية لإشكالية العلمانية والتعريفات السائدة للمصطلح والمفهوم دون إغفال أسباب الظهور والانتشار في المجتمعات الحديثة، في تفكيك بديع للنموذج العلماني بشكل مفصل وتحليلي.

أما المجلد الثاني فانتقل فيه من النظرية إلى التطبيق، مُستحضرا عمليات العلمنة الشاملة التي تمثل في لبها إعادة صياغة للمجتمع في ضوء النموذج الغربي.

2- بماهية ثابتة وأعراض متبدلة.. «العالمانية طاعون العصر»

إن المهتم بمقارنة الأديان والرد على شبهات النصارى واليهود أو كشف الإلحاد وبيان بطلان نظريات القساوسة والرهبان لا يخفى عليه الرجل الموسوعي الدكتور سامي عامري، صاحب المؤلفات الجليلة "براهين وجود الله"، "براهين النبوة"، "مشكلة الشر" وغيرها والذي برز أقرانه بعمق الإطلاع ودقة التبحر في المكتبة الغربية حتى يخيل إليك أنه أعلم من أصحابها بأصول مذاهبهم. 

ولقد تزينت المكتبة العربية سنة 2017م بكتاب جديد يناقش أصول العلمانية ويكشف مصطلحها ويفضح دلالتها سماه «العالمانية طاعون العصر» سعى فيه للتعريف بالأصل اللغوي للكلمة وعرض "حصادها المر" و"هشيمها البالي" كما يقول، مع بيان موقعها من عقيدة التوحيد.

 فاعتمد على مناهج متنوعة نظرا لتركيبة الموضوع المطروق، بداية بالمنهج التحليلي ومرورا بالمنهج الوصفي التحليلي والمنهج التاريخي وانتهاءً بالمنهج الشرعي.

 وتناول "العلمانية" كنظرة عقيدية بالخوض في أصولها وآثارها ومآلاتها، بغية تفسير حقيقتها الذاتية باعتبارها أسّ الأسئلة ومدارها، وهذا وفق تصور صحيح لحقيقة المذهب، على أساس القراءة في المصادر الأصلية بما يمكن من الإجابة عن جميع الأسئلة الشاغلة، وسعيا منه أيضا لتوجيه البحث إلى التوصيف والتعريف والحكم ورد الجدل المضاد، مع مناقشة حضور العلمانية في شكلها الغربي والعربي وتلاحمهما سببيا وتاريخيا.
وانتهت هذه الدراسة إلى نتائج كان من خلاصتها بيان أهمية القضية الاصطلاحية وعودة المصطلح في شكله الإنجليزي إلى اللاتينية وأصله في العربية من السريانية اشتقاقا من العالم لا العلم.

لذا مفهوم "العلمانية" متحول تاريخيا متغير سياسيا وجب الإنتباه عند محاولة ضبط تعريف اصطلاحي له من تداخل الماهية الثابتة مع الأعراض المتبدلة.
وللخروج من اضطراب المكتبة العربية في تقديم تعريف يفي ببيان النواة الصلبة، يقدم الدكتور عامري تعريفا يراعي فيه تعدد أنماط العلمانية دون المس بجوهرها الصلب فيقول أنها "مبدأ يقوم على إنكار مرجعية الدين أو سلطانه في تنظيم شؤون الناس، بعضها أو كلها، انطلاقا من مرجعية الإنسان لإدراك الحقيقة والمنفعة الكامنتين في هذا العالم".

فكان الهدف تقييم هذه الرؤية على أسس علمية موضوعية انطلاقاً من صحيح التاريخ للخروج بموقف منصف يقوم على أصل معرفة العلمانية كما هي لا كما نريد أو يريد غيرنا، وهذا الذي لن يكون ما لم نحط بها من زوايا ثلاث، أولاها الحقيقة النظرية كما هي في خطاب أهلها، ثم حقيقتها العملية ببيان واقعها على الأرض، وأخيرا حقيقتها في منظار الشرع.
ولم يفت الدكتور تذييل كتابه بملحق مختصر لأهم الأخطاء الشائعة عن العلمانية في المكتبة الإسلامية، كالقول بأنها أثر عن صراع الكنيسة مع العلم الطبيعي، أو أنها فصل للدين عن الدولة أو عن الحياة، أو كونها مجرد رأي وليست مبدأ فلسفيا متغافلين عن حقيقة كونها جزءا من سيرورة الغرب للتخلص من سلطان الكنيسة في باب الحقيقة والمعرفة.

3- «العلمانيون والقرآن الكريم» في مجابهة سلطة الغموض وعبث التغريب

في وقت تراجع الإنتاج العلمي الأكاديمي وتنازل عن مقصورة القيادة، راضيا بالركوب في مسارات التكرار والسطحية، يحسن بنا استذكار رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية الشريعة بجامعة دمشق، كان صاحبها الدكتور أحمد إدريس الطعان ومشرفها المفكر المصري د. محمد عمارة، عنوانها «العلمانيون والقرآن الكريم: تاريخية النص» طُبعت في كتاب صادر عن دار ابن حزم سنة 2007م.

 

 

جال المؤلف بين أركان الكتاب ابتداءً بالجذور التاريخية والفلسفية للعلمانية الغربية ثم حضورها في العالم العربي فالمفاهيم المشتبكة معها وجدلية العقل والنقل لديها، لينتقل بعدها إلى لب الكتاب ومكمن تميزه المتمثل في توضيح تعامل العلمانيين مع النص القرآني بأنسنته والقول بتاريخيته، فأفرد بابا للحديث عن التاريخية الشاملة والتاريخية الجزئية ومداخلهما الأربعة: الأصولي والكلامي وعلوم القرآن إضافة إلى الحداثي.

تطرق في ثالث الأبواب إلى الأصول الثلاثة للتاريخية المتمثلة في النزعة الإنسية والنزعة الماركسية وكذا الهرمينوطيقا وانعكاس كل هذا على الرسالة القرآنية، مصيبا بمحاجاجته مواطن التهافت ومثيرا بها مكامن العقل، آخذا تارة بقوة وأخرى بلين مبينا سلطان العلمانيين العرب في محاولة قطع صلة الوحي القرآني بالمرجعية العليا ليصير إلى حال النصوص البشرية الخالية من التقديس.

لأجل هذا احتل الكتاب مكانة مرموقة في عالم الدراسات الإسلامية خاصة، مواجها ومجابها دعايات الفكر المعاصر وفلسفته العلمانية المرتكزة على سلطة الغموض والإبهام، متسلحا بتوضيح وكشف معاني كلامهم إضافة إلى نقد وإبطال حججهم بعد عرضها في تمام الإنصاف.

ولأن الجهاد بالقرآن ودفاعا عن القرآن من أعظم الأفعال نفعا فإن كتاب الدكتور الدكتور الطعان كما وصفه محمد عمارة جهاد فكري ضد العبث التغريبي الذي يقترفه الحداثيون العرب ممن مثلوا امتدادات سرطانية لمذاهب التأويل الغربي في قراءة النصوص الدينية ( التأويل الهرمينوطيقي الوضعي).

 ويظهر جليا ذلك البون الشاسع والهوة السحيقة بين خطابهم وما يحسبون أنه اجتهاد وبين تراث الأمة الأصولي والفلسفي والكلامي، والفرق بينهم كالفرق بين الدركات والدرجات وبين الشذاذ والأفذاذ، والمساواة بين التشغيبات والتأصيلات من قبيح ما سمح به هذا العصر الضائع.

4- «روح الدين».. من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية

قد لا يصح الحديث عن قائمة الكتب المعالجة لظاهرة العلمانية دون التعريج على نتاج أحد أبرز المفكرين والفلاسفة في العالم الإسلامي ممن تخصصوا في المنطق وفلسفة الأخلاق، طه عبد الرحمن فيلسوف المغرب ومفكرها، تناثر جميل ما كتب عن العلمانية بين مجموع كتب مشروعه الفلسفي ولا سيما كتابه «روح الدين.. من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية».

بُني هذا الكتاب بناءً فكريا وفلسفيا صلبا، وتضمن أفكاراً ومصطلحات اختص ببنحتها طه عبد الرحمن وقد عرفت عنه لشدة تكرارها، ظهر مجيدا الاستقراء معززا للنقد ومصححا للمفاهيم، فكان بحق صدرا في فلسفة الدين في العالم العربي وموازنا لكتب (سبينوزا، كانط وبيرغسون) في العالم الغربي، مسهما في رؤية كلية للدين تجاوزت الجزئيات.

 

 

 

أعاد الكتاب ترتيب القراءات المشتغلة بمفهوم العلمانية وخط فيه كما في غيره مفهوما آخر للعلمانية، فصل به بين الجمع الحاصل للانفصال السياسي والأخلاقي تحت مسمى العلمانية، موضحا أن فصل الدين عن الأخلاق "دهرانية" وفصل الدين عن السياسة "علمانية" وفصل الدين عن جميع مجالات الحياة "دنيانية".

فشغل نقده للعلمانية وبيان محاذيرها الجزءَ الأكبر والأهمَ من هذا الكتاب، وقد لخص المحاذير في ثلاثٍ أساسية: أولها ضيق أفق العلمانية بحصرها الوجود الإنساني في العيني دون الغيبي وهو ما سماه بمسلمة " قصور الوجود الإنساني"، وثانيها تناقض الخروج عن الدين مع كونها في حد ذاتها دينا، وثالثها نزع الإطلاق عن الدين وإلباسه للإنسان في تأليه صريح لهذا الأخير وتسيده لذاته لا لخارج عنها.

ناقش في كل فصول الكتاب وأصّل للعلاقة بين الدين والسياسة بعد عرض ونقد الفصل العلماني والوصل الدياني.

بعيدا عن المسحات والسرديات.. «ترشيح لا مصادرة»

في الأخير لابد من التنبيه على أن الاقتصار على هذه النماذج لا يسلب غيرها أحقية الوجود ولا ثراء المضمون بقدر ما هو ترشيح لما نعتقد أن رؤيته أشمل وطرحه أعمق، بعيدا عن كل مسحة أدبية إنشائية أو ارتداد لسرديات مناقبية متأثرة بسطوة الأتباع أو ذهول الانبهار.

مع الإشارة إلى إرجاء الحديث في جزءٍ لاحق بحول الله لعرض مشاريعٍ اشتغلت على مصاولة ومكاشفة العلمانية (كمشروع محمد عمارة، صلاح الصاوي،..)