رأى كتابي "المواطنة والوطن في الدولة الحديثة المسلمة" النور في ظروف جدّ معقدة وخطيرة، تمر بها أمتنا العربية والإسلامية بعد ثورات عام 2011، وخاصة بعد مرحلة ما عرف في الأدبيات الإعلامية والسياسية الحالية باسم الثورات الشعبوية المضادة أو مرحلة الخريف (عام 2013 وما بعده)، حيث بدأت مرحلة الانقلابات والمكائد والمؤامرات على الثورات الشعبية، تلك الانقلابات ساندتها دول غربية وعربية بهدف تحطيم إرادة الشعوب في التحرر وإعادة تأهيل أنظمة الاستبداد والديكتاتورية، بعد أن نجحت شعوبنا العربية من تونس إلى ليبيا مرورًا بمصر واليمن وسورية في تحطيم الأصنام وإسقاط الرموز القديمة. واستطاعت في حراكها النوعي والشامل أن تغير المفاهيم المغلوطة التي أخذها الغرب والشرق عن العرب لعقود من الزمن، فقد دفعت شعوبنا الثمن غاليًا، وضحت بدمائها وأموالها وفلذات أكبادها، فما وهنت لما أصابها في سبيل الله، وما استكانت للوصول إلى حريتها، ودأبها في تحقيق المواطنة الشاملة، ولسان حالها يقول: إن الحرية لا تُوهب ولا تُعطى، إنما تُنتزع انتزاعًا وتَروي شجرتها الوليدة بدماء الشهداء الزاكية.
إن أكثر المسائل التي شاع الحديث عنها بعد الهبات الشعبية العربية في عام 2011، هي مسألة المواطنة ودعائمها ومفهومها وكيف يمكن تبيئتها عربيًا وإسلاميًا، بعد عقود الاستبداد والظلم والإقصاء والتسلط التي مورست بحقها. والجدير ذكره هنا، بأن من الصعب مقاربة مفهوم المواطنة الحديث عربيًا مع مفهومه في أوروبا الذي تطور على مدار القرون الثلاث الماضية هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن المواطنة في كل حقبة تاريخية إنما كانت تُعبر عن التركيبة الثقافية والأخلاقية لتلك الحقبة، ومن ثم كانت المؤثر على مدى تَحقُقِ المثل الأخلاقية والسياسية في زمانها، فمثلًا: المواطن عند اليونان هو اليوناني الحر، بينما المواطن في زمن الدولة القومية الحديثة هو أحد أبناء الأمة المكونة للدولة. وعلى هذا كيف بدت حالة الإنسان العربي والمسلم في ظل المعارك السياسية والمخاوف الأمنية بين طلاب الحرية والمواطنة العادلة وبين من يسعى لاستئصال تلك المفاهيم والقيم النهضوية والحضارية؟
أولاً: المواطنة والوطن لغويًا وسياسيًا:
جاءت المواطنة لغةً، من واطنه على الأمر مواطنة، وواطن القوم: عاش معهم في وطن واحد. وفي "المعجم الوسيط": الوطن: مكان إقامة الإنسان ومقرُّه، وُلد به أو لم يولد. و"الوطنية" مصدر صناعي منسوب إلى الوطن، كما يقال "القومية" نسبة إلى القوم، و"العالمية" نسبة إلى العالم، و"الإنسانية" نسبة إلى الإنسان، وكثير من هذه المفاهيم والمصطلحات هي من هذا النوع: مصادر صناعية، قد تزاد أحياناً ألفاً ونوناً مثل: النفسانية، نسبة إلى النفس، والعلمانية نسبة إلى العلم، والشخصانية نسبة إلى الشخص.
أما اصطلاحًا، يُعرَّف الوطن بأنه قطعة الأرض التي تعمرها الأمة بشكل خاص، وهو المسكن، فالروح وطن لأنها مسكن الإدراكات، والبدن وطن لكونه مسكن الروح، والثياب وطن لوطنها مسكن البدن، فالمنزل والمدينة والدولة والعالم كلها أوطان لكونها مساكن. واتفقت معظم مراجع الفقه الدستوري على إطار عام يحدد التعريف الاصطلاحي للمواطنة على النحو التالي:
المواطنة هي علاقة بين فرد ودولة، كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة، وهي تسبغ على المواطن حقوقاً سياسية كاملة.
وحسب التعريف السياسي، يعتبر مفهوم المواطنة من المفاهيم القديمة الحديثة؛ التي يدور حولها جدل كبير، ومن هنا يختلف مفهوم المواطنة تبعًا لما يُراد به، حيث يعود تاريخ هذا المفهوم إلى زمن الإغريق؛ الذي يعتبر أساس الديمقراطية في العالم اليوم، هذا، وقد شهد مفهوم المواطنة تغيرًا جذريًا في استخداماته ومضامينه، ولم يعد فقط يشير إلى علاقة المواطن بالوطن، والفرد بالدولة، بل تعدى ذلك إلى كونه مفهومًا مجتمعياً شاملًا متعدد الأبعاد.
وعلى ذلك، فإن إعداد المواطنة الصالحة يعتبر هدفًا من أهداف الدولة والمجتمع، وتزداد أهمية هذا الهدف مع التقدم العلمي والحضاري الذي يشهده عالم اليوم، وما يتبعه من فضاء إعلامي واسع الانتشار في أرجاء المعمورة، ومن ثقافات متعددة يتعرض لها الفرد المواطن، وتعتبر تربية المواطنين هي وسيلة المجتمع والدولة في وقت واحد لإعدادهم على الوجه المطلوب؛ ليضمن انتماءهم له، ويحافظ على هويتهم في ظل الظروف الحالية والمتغيرات المتسارعة التي يمر بها، كما يرسخ لهم الشعور بمسؤولية الأعمال التي يقومون بها تجاه وطنهم، سواء كانت فردية أو جماعية.
ثانيًا: التطور التاريخي لمفهوم المواطنة والوطن:
تمتد جذور الوطن والمواطنة إلى آدم وزوجه عندما كانا يسكنان الجنة، فلما أهبط الله آدم وزوجه من الجنة، بقيا هما وذريتهما بما قُدر لهم من الخلافة في الأرض، وعمارتها، وعبادة الله فيها: كانت الأرض مهيأة لتكون كلها وطناً ومستقراً لآدم وذرّيته من بعده؛ ولهذا قال الله تعالى في القران مخاطباً آدم وزوجه وإبليس معهما: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ *} [الأعراف: 24].
وهكذا كانت الأرض كلها في أول الأمر وطنًا لآدم وأولاده، لا تزاحم، ولا تنافس، ولا اختصاص بمكان دون مكان. فلما كثرت ذرية آدم وانتشرت، بدأ الناس يتجمَّعون في أماكن بحكم الطبيعة الاجتماعية للبشر، حتى قال الأقدمون: الإنسان مدني بطبعه، وكان الناس يتجمعون في بلدان أو قرى، ويتخذ كل منهم لنفسه ولأهله وولده بيتاً يأوي إليه، يكنّه من القرِّ والحرِّ، ويستره من أعين الناس، ويمارس فيه خصوصيته، ومن مجموع هذه البيوت تكون القرية التي يترابط أهلها فيما بينهم بروابط شتى: كالنسب، والمصاهرة، والجوار، والصداقة، والزمالة في العمل، والاشتراك في تأمين حاجات القرية والدفاع عنها، ومن هذه القرية، أو البلدة، أو المدينة: بدأت قضية «الوطن»، فحين تعدَّدت البلدان والقرى، واضطر الإنسان لسبب أو لآخر إلى أن يهاجر من بلده؛ لم ينس الموضع الأول الذي عاش فيه، وكوَّن به علاقات حميمية من أهل، وأصهار، وأقارب، وأصدقاء، وأحبَّة، وأمسى مرتبطاً عاطفياً بذلك المكان وأهله، كما عبر عن ذلك أبو تمام في العصر العباسي بقوله:
نقلْ فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحبُّ إلا للحبيب الأولِ
كم منزلٍ في الأرض يسكنه الفتى وحنينُه أبداً لأول منزلِ.
ثالثًا: المواطنة وتحدياتها بعد ثورات الشعوب العربية
تأتي أهمية العمل على تأصيل مبدأ المواطنة في ظل التطور السياسي على اعتبار أن المواطنة ركن أصيل من أركان الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي "قواعد الشورى العامة"، على اعتبار أن الهدف من عملية الإصلاح هو تحقيق فائدةٍ للطرفين الوطن والمواطن. كما لا يمكن أن تتم عملية الإصلاح من غير تعزيز مفاهيم المواطنة التي يقوم على أساسها إحقاق كافة الحقوق للأفراد، باعتبارهم مشاركين في بناء الدولة، وحماية القانون العام فيها.
لقد شكلت قضايا المواطنة وحقوق المواطنين أساس النقاشات الاجتماعية والسياسية والنداءات الشعبية بعد النجاح المبدئي للربيع العربي في بلدان تونس وليبيا ومصر عام 2011، فالمفهوم أخذ يتبلور من خلال حركة المجتمع الحقيقة، وتطوراته الدستورية، وتحولاته الثقافية الكبيرة. ومن هذا المنطلق، بدأت المفاهيم الدستورية المرتبطة بالمواطنة والحرية الشخصية تتجسد في شخصية المواطن وفكره السياسي من جديد، بناء على موروث اجتماعي وثقافي مشترك من المبادئ والقيم والمعتقدات والأخلاق والسلوك والعادات والتقاليد لأبناء المجتمع. وأخذ المواطن يحتمي به عند الملمات والأزمات، ومن ناحية أخرى يدافع عنه عند التحديات؛ لأن المواطن هو الوطن، والوطن هو المواطن، بمعنى أنه لا يستغني أحدهما عن الآخر، والكل مرهون بوجود الآخر.
بعد ذلك، حدثت تغيرات كبرى ألقت بظلالها على مجالات الحياة العامة لدولة الربيع المنتصرة، إذ أدت التطورات السياسية والأمنية في العالم العربي، بعد الردة الثورية المضادة (الشعبوية)، إلى أوضاع اجتماعية وسياسية مختلفة. حيث شكلت عملية القمع المستمر واضطراب الأمن والقتل والترويع والتشريد، والتواطؤ مع العالم الخارجي الغربي والعربي معًا، والسعي لتحطيم إرادة الشعوب الحرة وتدمير بلدانها ونهب مقدراتها وتمزق هويتها الوطنية حالة محبطة، أصابت المواطن العربي والمسلم بالصدمة رغم جهوده العظيمة لاستئصال الفساد والاستبداد، لذلك بدأنا نشهد إحياء تيارات دينية وحزبية راديكالية شوهت الدين والمجتمع، وطمست صورة المواطنة الحقيقية التي نادت بها ثورات الشعوب، وبدلًا من أن تساهم في تعزيز الانتماء الوطني وبناء التآلف الاجتماعي، سعت إلى تطييف المجتمع، وشجعت الانقسامات القبلية، والجهوية، والعرقية الداخلية، وأدت لصراعات أضرت بقيم المواطنة وأصولها وهو ما أدى إلى الفوضى والشتات والخوف والخذلان في بلادنا العربية والإسلامية.
وعلى الرغم من تعثر خطوات النهضة الحضارية، واهتزاز صورة المواطن في عالمنا العربي والإسلامي بفعل ضربات الطغمة الفاسدة والتواطؤ الخارجي، فهذا لا يعني غياب المواطن ودوره في مجتمعاتنا بل على العكس، فإن المواطنة الفاعلة تتجدد مع تحمل المواطن مسؤولياته الوطنية باقتدار، وامتلاكه أدوات دفاع سياسية وقانونية، يسعى من خلالها لبناء عقد اجتماعي داخل المجتمع، ويكون له دور فاعل ومشاركة سياسية وفكرية بتحدٍ وتضامنٍ لا محدود، وبأسلوب حضاري وتنظيمي عظيم. ووفق ذلك، يمكنه لعب دور رئيسي في بناء نظام دولة جديد بدماء جديدة على أسس المساواة والحرية والعدل، فيكون المواطن بذلك سورًا يحمي الجميع من التشتت والتنازع، ويلطف الأجواء السياسية والاجتماعية العامة، ومهما بلغ الأمر، فلا مستقبل للطموحات السياسية والشخصية للمواطن، إلا في ظل هذا مشروع وطني شامل وجامع.