ذكرنا في مقال سابق قصة المغامر الأمريكي كولمبس جونير، الذي نجح عام 1930م في حفر أول بئر نفطية في شرق تيكساس متحديا آراء الجيولوجيين الذين كانوا يؤكدون استحالة وجود النفط في تلك المنطقة. كان كولومبوس مستثمرا مغامرا عشق المخاطرة سعيا وراء أعلى الأرباح (High risk brings high return).
خلال فترة لا تتجاوز الستة أشهر، تجمع عدد من صغار المستكشفين في شرق تيكساس محاولين استغلال الفرصة، الشيء الذي قفز بإنتاج الموقع لأكثر من 340 ألف برميل في الْيَوْمَ. وبعد عام من ذلك التاريخ أصبح الحقل (والذي أطلق عليه اسم العملاق الأسود) من أكبر الحقول في العالم بطاقة إنتاجية فاقت الـ 500 ألف برميل في الْيَوْمَ (وهو معدل ضخم بالمقارنة مع إنتاج ذلك الوقت).
لم تكن التشريعات في ولاية تيكساس تعطي سلطات الولاية حق التدخل في تنظيم الإنتاج النفطي، ومع إزدياد إنتاج النفط في شرق تيكساس بواسطة الشركات الصغرى، تم إغراق الأسواق بصورة لم يعهدها العالم؛ وهو ما أدّى إلى حدوث أول انهيار لسعر النفط في التاريخ. إنخفض سعر خام تيكساس من الواحد دولار إلى مستوى الـ 15 سنت (0.15 دولار)، بل إن بعض الشركات اضطرت لبيع نفطها في حدود الـ 2 سنت أمريكي فقط (0.02 دولار أمريكي).الجدير بالذكر أن تكلفة إنتاج البرميل الواحد في تلك الفترة كانت في حدود الـ 70 الى 80 سنت أمريكي.
أدت فوضى الإنتاج والاختلال بين العرض والطلب إلى إشتعال حرب في الأسعار بين الشركات الكبرى والصغرى ،نهاية سنة 1931م ارتفع إنتاج شرق تيكساس لمستوى المليون برميل في الْيَوْمَ، أي نصف استهلاك الولايات المتحدة، لم ينحصر تأثير تلك الفوضى على سوق النفط الأمريكي فقط، بل امتد ليشمل السوق العالمي أيضا.
كانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت هي المنتج الرئيسي والمتحكم في سوق النفط العالمي، لكن مع بداية ثلاثينيات القرن الماضي، بدا أن لاعبا جديدا يلوح في الأفق، فقد أظهرت اكتشافات الجيولوجيون التابعون لشركة ستاندرد اويل الأمريكية في صحاري السعودية أن تلك البقعة النائية من العالم هي من سيتحكم في سوق النفط العالمي.
في فبراير من العام 1945، كان الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عائدا من مالطا على متن طراده الرئاسي، ورأى أن يقتنص الفرصة ويلتقي بالملك السعودي عبد العزيز بن سعود (وقد كانت هذه الخطوة دون علم البريطانيين)، توقف الرئيس روزفلت في البحر الأبيض المتوسط وأرسل باخرة صغيرة إلى جدة لإحضار الملك السعودي وعددٍ قليل من حاشيته، كان ذلك هو اللقاء الأول والأشهر على الإطلاق الذي يجمع بين قيادة البلدين، وهو اللقاء الذي تم فيه التوقيع على إتفاقية كوينسي، بالرغم من أن نصوص الاتفاقية لم يتم الإفصاح عنها بصورة شفافة، إلا أن معظم بنودها تم تسريبها فيما بعد.
فقد تعهد الرئيس روزفلت للملك عبد العزيز أن تقوم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بتوفير الحماية الكاملة لمملكته الوليدة والوقوف إلى جانبها ضد أطماع القوى العظمى، كما تعهد بضمان استمرار حكم أسرة آل سعود ودعمها اللامحدود ضد التهديدات الداخلية والإقليمية، في المقابل تعهد الملك عبد العزيز بعدم السماح للشركات غير الأمريكية بالتنقيب على النفط في الأراضي السعودية، واعتماد الدولار الأمريكي كعملة وحيدة في عمليات البيع للنفط السعودي.
تعد حقبة السبعينات فترة تحول كبرى على الصعيدين المالي والسياسي، في سنة 1970م كان حجم الدولارات المتداولة في الأسواق العالمية يقترب من حاجز الـ 300مليار دولار. بينما كان حجم احتياطيات الذهب في Fort Knox لا يزيد عن 14 مليار دولار وفقا للسعر الرسمي الذي وضعته اتفاقية بريتون وودز (35 دولار للأونصة).
يرى بعض المحللون أنّ السبب وراء هذا العجز الضخم بين الدولارات المطبوعة وتغطيتها من الذهب، هو توسع الحكومة الأمريكية في إصدار الدولار لتغطية نفقات حرب فيتنام، وإنفاقها الهائل إبان الحرب الباردة. ومن المؤكد أنّ هذا التصرف كان انتهاكا واضحا لاتفاقية بريتون وودز، وبالرغم من أن الحكومة الأمريكية آنذاك كانت تعد أكبر مالك للذهب في العالم، إلا أن الخلل في الميزان بين المعروض من الدولار والمملوك من الذهب آخذ في التوسع بصورة أكبر في أواخر العام 1970م. وفي منتصف أغسطس من العام 1971م اتخذ الرئيس نيكسون قراره المزلزل بالانسحاب من معاهدة بروتين وودز وفك ارتباط الدولار بالذهب.
كانت المحصلة الفعلية للقرار الأمريكي هي استبدال الذهب بالدولار، وفرض العملة الأمريكية على العالم كأمر واقع وذلك من خلال تمكين الحكومة الأمريكية من طباعة ما تشاء من الدولارات طالما أن هناك من يثق بها ويرغب في امتلاكها. ولأن الحكومة الأمريكية كما أسلفنا كانت أكبر مالك للذهب في العالم، فقد تحكمت في عمليات العرض والطلب عليه مما أوصل سعر أونصة الذهب إلى 350 دولار (أي عشرة أضعاف سعر بروتين وودز). لقد حرر ذلك القرار شهادة وفاة رسمية لما كان يعرف بالـ"النقد" والذي كان يسيطر على التجارة والتبادل منذ قدم التاريخ. كما أعلن عن بداية ما يعرف بـ"اقتصاديات المضاربة"، وهو نمط جديد لم تعرفه البشرية من قبل، على صعيد آخر أتاح القرار للحكومة الأمريكية إمكانية بيع احتياطياتها من الذهب بعشرة أضعاف أسعار بروتين وودز.
لم يبتسم الحظ كثيرا للرئيس نيكسون، فلم تمض سوى أشهر قليلة على انسحابه من بروتين وودز حتى تم توريطه في فضيحة ووتر قيت. ووفقا لعدد من المحللين، ربما يكون الرئيس نيكسون قد دفع ثمنا باهظا لمواقفه الصارمة ضد اللوبي الصهيوني في واشنطن!
مع انشغال نيكسون بمعالجة آثار ووتر غيت، كانت الفرصة مواتية للثعلب اليهودي هنيري كسينجر للإنفراد بأمر السياسة الخارجية الأمريكية، وقد أدت هيمنته على الشأن الخارجي إلى تفاقم الأوضاع في الشرق الأوسط وهو ما مهد الى اندلاع حرب 1973م وتبعاتها من إعلان الملك فيصل قطع إمداد النفط العربي عن الغرب.
شهدت أسعار النفط تصاعدا غير مسبوق نتيجة لوقف مبيعات النفط العربي لأوروبا وأمريكا، إذ ارتفع سعر برميل النفط إلى أربعة أضعاف سعره ما قبل المقاطعة، ووجدت الدول الأوروبية نفسها في موقف لا تحسد عليه.
أما في الولايات المتحدة فقد كان للمقاطعة أثر مزدوج، فعلى الصعيد المحلي شكل انعدام الوقود في محطات التعبئة والزيادة الكبيرة في سعره أمرا مفزعا للمواطن الأمريكي، أما الاحتياطي الفدرالي فإن الأزمة لم تكن مزعجة له بالمطلق، بل كانت مهرجانا لجني الأرباح والتوسع في الإيرادات، فزيادة سعر النفط أدت إلى زيادة الطلب على الدولار، وهو الشيء الذي مكن الفدرالي الأمريكي من مضاعفة طباعة العملة الأمريكية بمستويات غير مسبوقة.
لقد ساعدت أزمة النفط الدولار الأمريكي من التحول من مجرد ورقة نقدية غير مغطاة بالذهب وغير مرغوبة لدى الدول الصناعية الكبرى، إلى سلعة يتبارى العالم في الحصول عليها لضمان مشترياته من الطاقة، نجحت الخطة الأمريكية في فك ارتباط الدولار بالذهب الأصفر، وربطه عبر زواج كاثوليكي بالذهب الأسود، فقد انتبه صناع القرار إلى أهمية النفط من حيث أنه المصدر الأهم للطاقة، وهو ما يرفع من قيمته الاستراتيجية ويزيد من معدلات الطلب عليه ليس فقط من قبل الدول الصناعية الكبرى بل ودول العالم الثالث أيضا.
حاولت في هذه العجالة أن أقدم للقارئ الكريم سردا موجزا لسر الإرتباط الوثيق بين أسواق النفط والعملة الأمريكية الخضراء، في المقال القادم نحاول بإذن الله تسليط الضوء على بعض الجوانب الملتبسة في عوالم النقد والطاقة.