إنّ الحقيقة التي لا غُبار عليها أنّ فجوة كبيرةً قد تشكّلت بين العالم العربي والدول المتقدمة، وهي فجوةٌ رقميّة تتسعُ باختلافات معرفية تخص إمكانات التعلّم وإنتاج المعرفة عبر نُظُم وطنية للابتكار قادرة على تحويل الموارد المعرفية الأولى إلى قدرات استيعابية تنبني على الارتقاء بالكفاءات وتنمية المعارف عبر التراكم والتعلّم المستمر. وعلى إثر هذا تتهافتُ الدول العربيّة اليوم على إرساء منظومة معرفية تمكّنها من اللحاق بالركب التكنولوجي وتطوير قدراتها المعرفية، من أجل بناء اقتصاد قوي قادر على الصّمود في وجه تقلّبات الأسواق العالمية، العولمة، التنافسية وسرعة الأداء.
أين تقع الدول العربيّة في مؤشّر الابتكار العالمي؟
وقد بات مؤشر الابتكار العالمي -الذي يُشاركُ في نشره سنويًّا منذُ عام 2007 كل من جامعة كورنيل والمعهد الأوروبي لإدارة الأعمال (الإنسياد) والمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو)- أداة قياس رئيسية بالنسبة لمديري الأعمال وواضعي السياسات وغيرهم ممّن يريدون الاطّلاع على حالة الابتكار في العالم. حيثُ يعتمدُ على مرتكزات رئيسية هي مدخلات ومخرجات الابتكار وتتضمن 81 مؤشراً فرعياً تقدم رؤية شاملة حول مختلف مجالات الابتكار، من أبرزها الإبداع والمعرفة والتكنولوجيا والبحث والتطوير وتطور الأعمال التجارية وتطور الأسواق والبنية التحتية والمؤسسات ورأس المال البشري والبيئة السياسية والتعليم والهياكل الأساسية وتطور الأعمال...، ويهدف إلى ترتيب القدرات الابتكارية لاقتصادات العالم ونتائجها. ويقرّ التقرير بدور الابتكار كمحرّك للنمو والازدهار في الميدان الاقتصادي، وبالحاجة إلى تطبيق منظور أفقي واسع في مجال الابتكار على الاقتصادات المتقدمة والناشئة.
وضمّ التقرير بنسخته الحادية عشر لهذا العام 126 بلدًا واقتصاداً حول العالم، حيثُ حافظت سويسرا على صدارة تصنيف المؤشّر، واحتلّت هولندا والسويد والمملكة المتحدة وسنغافورة والولايات المتحدة الأمريكية وفنلندا والدنمارك وألمانيا وإيرلندا بقية المراتب العشر الأولى حسب مؤشر الابتكار العالمي لسنة 2018.
وقد حافظت دولة الإمارات العربيّة على صدارتها في المركز الأول عربيًّا محققة تقدمًا على محور مخرجات الابتكار فيما حلت في المرتبة 38 عالمياً على الترتيب العام للمؤشر. كما وردت 16 من أصل 19 دولة في منطقة شمال أفريقيا وغرب آسيا ضمن أعلى 100 دولة في العالم، ومنها تركيا (المرتبة 43)، وقطر (المرتبة 49)، والمملكة العربية السعودية (المرتبة 55)، والكويت (المرتبة 56)، والبحرين (المرتبة 66)، والمغرب (المرتبة 72)، وتونس (المرتبة 74)، وعُمان (المرتبة 77) ولبنان (المرتبة 81)، والأردن (المرتبة 83)، في حين تذيّلت اليمن القائمة.
أسباب الفجوة بين المراكز البحثيّة العربية والدول الأجنبيّة
وقوفًا على العوائق التي يواجهها مجال الابتكار في العالم العربيّ، وأسباب استمرار الفجوة بين المراكز البحثيّة العربية والمجالات الصناعية، وكذا السّبل التي يمكن توظيفها للربط بين البحث العلمي وحاجات السوق في العالم العربي وتراجع ترتيب الدول العربية وتقدم الأجنبيّة، أوضح الباحث البارز -أستاذ هندسة الحاسوب في الجامعة الإسلامية بغزة- وسام عاشور؛ أن من أهم الأسباب:
"عدم اعتماد موازنات مالية كافية للبحث العلمي في أغلب الدول العربية، خلافًا للأجنبيّة".
إضافة إلى عوائق أخرى تعودُ أسبابُها أساسًا إلى الحكام والأنظمة الحاكمة في معظم الدول العربية، حيث يمكن تلخيصها في أربعة نقاط:
- نوعيّة التعليم المدرسي يفتقد عنصرَ البحث العلمي ويقتصر على التلقين وهدم الابتكار.
- تدنّي المستوى المعيشي لدى معظم الشعوب حيث أصبحت الجامعات الطريق الأساسي للحصول على شهادة بهدف الوظيفة فقط.
- افتقار الجامعات للدّعم المالي في مشاريع البحث العلمي للطلّاب والأساتذة وانتشار الفساد ضمن الهيئات المتخصّصة في هذا الدعم.
- تدمير حوافز الاستثمار لدى الأفراد من قبل الجهات الرسمية الحكوميّة وعدم تشجيعه.
فمثلاً بالنّسبة لتراجع الابتكار العلمي في العراق، يقول أحد الأكاديميّين:
"الابتكار يكاد يكون جزءًا روتينيا من الحياة اليومية في المجتمع العراقي؛ مثلا يلجأ الكثير من الناس إلى الابتكار لسدِّ نقص إما في المواد الأولية أو الأجزاء الاحتياطية للأجهزة والمعدات، فالابتكار جزء من حياة الميكانيكي والكهربائي وعامل البناء والباحثين في المجالات العلمية المختلفة، لكن لا توجد آلية محددة لاكتشاف الابتكارات النافعة، كما لا تتوفر تسهيلات لتطوير الابتكارات وتحسينها و لا توجد نوايا لاستثمار الابتكارات"[1].
كما تعاني الدول العربية من فقر معرفي تتجلّى مؤشراته في ضعف كبير لبنية إنتاج المعارف، حيث نجد أن الدول العربية تخصص نسبة ضئيلة جدًّا قد لا تتجاوز 1% من الناتج المحلي الإجمالي للبحث والتطوير، وبذلك فإنّ مساهمتها في الإنفاق الاجماليّ العالمي على البحث والتطوير ستكون بنفس النسبة، وممّا يلاحظ أيضًا في العالم العربي أنّ هناك هدرًا ماليًا لمخصصات البحث والتطوير، حيث تُصرف على شكل رواتب للأساتذة الباحثين من دون ربطها بالإنتاج العلمي، الأمر الذي لا يحفّز على البحث بالجامعات العربية.
في حين أن العديد من الشركات والمؤسسات الخاصة والرسمية الأجنبية تستثمر بشكل كبير في البحث العلمي، وتقدم منحًا مالية كبيرة للجامعات ومراكز الأبحاث؛ من أجل البحث في إيجاد حلٍّ للعديد من المشاكل التي تواجهها في مجال عملها، كما تعتبر النشاط العلمي المنتج لأهم الابتكارات المختلفة من أولويات وأساسيات وضروريات نهوض الأمم وتقدم وقوة الدول، وتصبُّ هذه الدّول اهتمامها بالإنسان منذ سن مبكرة، فيستحوذ الطفل على الاهتمام والتدريب في مجال البحث العلمي[2].
إذن، هناك فروقات تكنولوجية تفصل من يمتلك القدرة على استخدام تقنيات المعلومات والتواصل ومن يستهلكها،
وهنا وجبت الإشارة إلى أنَّ امتلاك التقنيات والأجهزة غير كاف لإقامة نظام وطني للابتكار، بل هو تحديث سطحي يستلزم إرادة سياسية قوية وحركة مجتمعية فاعلة ومناخ أعمال مشجع، تعمل على تصوّر شامل مدخله سياسي ثقافي وناتجه اقتصادي لبناء اقتصاد معرفي قوي.
ثمّ إنّ 'الرّتوش' التي تأتي لتجديد المنظومات التعليميّة بشأن المقررات الدراسية هي فقط في الشكل، ولم تتطرق للمضمون، فالمقرّرات الدراسية في المراحل المختلفة لا تدعو إلى الإبداع، وإنما للحصول على الدرجات والنجاح، وهو ما ينتج نسخًا مشابهة من الخريجين، مع عدد قليل من المبدعين.
إلى جانب هذا كلّه، فإنّ فقدان الحرية والاستقرار في العالم العربي، الذي يعاني منذ عُقودٍ كثيرة من صراعات وحروب مستمرة في ظلّ أنظمة حكم قمعيّة، تسببت بهجرة الكثير من المبدعين وأصحاب العقول، وموت الكثير منهم أيضا، وأمّا من تبقّى بين جدران تلك الدول المهترئة، فليس لديه الفرصة في أن يقدّم ما لديه من إبداعات، لأنّ البيئة العربية أصبحت هذه الأيام -أغلبها- بيئة طاردة للمبدعين والإبداع، ولا مكان للمبدع في بلده[3].
الابتكار في العالم العربي.. ما الحل؟
وعليه، فالابتكار يحتاج إلى امتلاك القيم العلميّة والثقافية التي تدفع بتطوير البنى الإنتاجية والمرتكزات المعرفية، الأمر الذي يسائلنا عن العقل العربي والنهضة المعرفيّة. إن الخروج من براثن الفقر المعرفي إلى أفاق الابتكار يستدعي وجود سياسة علمية رصينة تكون حريّة التفكير والتعبير حجر الزاوية فيها. وتسعى بذلك إلى إعداد متكامل للناشئة وتحفيز للإبداع والابتكار، معتمدة في ذلك على تحسين جودة التعليم عبر أساليب متجددة تصقل ملكات التنقيب والاستكشاف والقيادة لدى المتعلمين، وإسهامها في رسم معالم جديدة للهياكل الاجتماعية والسلوك الاقتصادي والأداء المؤسساتي بالعالم العربي[4].
ثمّ لا بد لنا من العودة إلى الدور المحوريّ للجامعات في التقدم بالاقتصاد المعرفي، فعلى المستوى العالمي، نجد أن الجامعات أصبحت تؤدي وظائف عديدة تمزج بين التكوين الجامعي، البحث العلمي والابتكار بما يشمله من إبداعات تكنولوجية، تنظيمية، خدماتيّة وإدارية.