آيا صوفيا.. عنوان الزّمن الإسلامي لتركيا، والحدث التاريخي المعولم، ورمز التدافع الحضاري العابر للزّمان والمكان والإنسان. 

آيا صوفيا عبر التاريخ..صراع وتجاذبات

فمن الامبراطورية البيزنطية التي وَلَغت في دماء المسلمين طيلة 07 قرون، والتي كانت عاصمتها: القسطنطينية (اسطنبول حاليًّا)، ومركزها الرّوحي: الكنيسة الأرثوذكسية آيا صوفيا، والتي بُنيت سنة 532 م، إلى الفتح الإسلامي لها سنة 1453م، على يد الشّاب محمد الفاتح (23 سنة)، وهو صاحب بِشارة رسول الله صلى اللّه عليه وسلم المهتم بتلك العاصمة منذ ثمانية قرون، عندما قال:

"لتُفتحن القسطنطينية، فلنِعم الأمير أميرها، ولنِعم الجيش جيشها"

باعتبارها عاصمة الظّلم وعنوان الطّغيان وأداة الشّر في مواجهة الدّعوة والخلافة والحضارة الإسلامية الجديدة. هذا الإرث التاريخي المثقل بخزّان الصّراع في معركة البقاء بين ثنائية آيا صوفيا والمآذن، وبين القسطنطينية واسطنبول بتلك الرّمزيات المفعمة بالحضارة الدّينية، والذي اختلطت فيه أبعاد السّياسة بعقائد الدّين، وخلفيات التاريخ بحدود الجغرافيا، ولهيب المشاعر بحزم المواقف جعل التدافع عليها يأخذ هذا المنحى العالمي المتصاعد.  

آيا صوفيا مد وجزر بين الإسلام والعلمانية

لقد حاولت 22 دولة أوروبية اجتياح اسطنبول من أجل استرجاع آيا صوفيا سنة 1915م، واستمرّت هذه المعركة إلى غاية سقوط الخلافة العثمانية رسميًّا سنة 1924م بالانقلاب على الإسلام والقرآن والشّريعة والآذان واللّغة العربية والتاريخ الإسلامي على يد مصطفى كمال أتاتورك، والذي لم يقصّر في اقتلاع جذور ورموز ومظاهر الحضارة الإسلامية بشراسة، والتي وصلت إلى تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحفٍ سنة 1934م بكلّ تلك القسوة العسكرية والتغريب القسري، وهو المسجد الذي صلّى فيه المسلمون ما يقارب 500 سنة ماضية.

هذه القضية التي ارتبط فيها الماضي بالحاضر، وامتزج فيها البُعد التاريخي بالحضاري، واختلط فيها البُعد القومي بالدّيني، هي الآن قضيةٌ قوميةٌ سياديةٌ لتركيا، تحمل في رمزيتها إعادة صلة تركيا بتاريخها الإسلامي برموزه الدلالية: المساجد والمآذن والقِباب، واستئناف الحضارة من نقطة توقّفها عند أتاتورك، ليس كعودةٍ آليةٍ للماضي ولكن كممارسةٍ للحقوق السيادية، فهي مظهرٌ آخر من مظاهر الصّراع المعاصر بين الإسلام والعلمانية في تركيا. 

 وفي الوقت الذي افتخر فيه المسلمون عبر التاريخ بذلك الفتح الإسلامي للقسطنطينية على يد محمد الفاتح، وشرائه لتلك الكنيسة وما حولها من الأرض من ماله الخاصّ من الرّهبان الأرثوذكس، وتحويلها إلى مسجدٍ ووَقْفٍ للمسلمين في العالم بعقدٍ لا يزال محفوظًا في دار الوثائق والحجج التركية بأنقرة، وأنّه مدوَّن في وثيقةِ سَنَدِ الملكية بذلك التوصيف فلا يمكن تغييره، يطلّ علينا اليوم بعضُ الصهاينة العرب من أجل المناكفة الكيدية لتركيا الأردوغانية، تارةً باسم الدّين وتارةً باسم التراث العالمي وتارةً باسم التسامح الدّيني للاعتراض على هذا الفتح الإسلامي الجديد.

لا أحد يشكّ أبدًا في ضخامة هذه الخطوة، والتي تتقاطع فيها خطوط السّياسة والدّين والتاريخ، وأنّ تحويل آيا صوفيا من متحفٍ إلى مسجدٍ ليس مجردَ قرارٍ سياسي أو قضائي، وهو ما تدركه الدول الغربية المنزعجة جدًا.

 بل هو عنوانُ إحياءِ أمّة، ونهايةُ مرحلةِ ضياع، وكتابةُ تاريخٍ جديد، وهو قرارٌ في غاية الحساسية والدّقة، سيسجّله التاريخ عبر صفحاته الصّاخبة، وهو خطوةٌ ذات دلالات رمزية تؤذِّن باسترجاع باقي المساجد الأخرى، وعلى رأسها: المسجد الأقصى المبارك بفلسطين.

 ورغم الزّخم المسجدي لاسطنبول بحوالي 03 آلاف مسجد إلاّ أنّ رمزية آيا صوفيا تختلف عنها جميعًا، لأنّها مفعمةٌ كذلك بالتاريخ والحضارة والسّياسة في اشتباكٍ أزليٍّ بين الماضي والحاضر والمستقبل. ومنذ الوعود الانتخابية لنجم الدّين أربكان، وهو زعيم الإحيائية الإسلامية السّياسية التركية المعاصرة، ورمز استعادة التوازن المفقود بين توتر الهويّة واستحقاق الاستئناف الحضاري لتركيا، ثم اجتهادات تلميذه الاستثناء: رجب طيب أردوغان، وهو التوْلِيفة المركّبة بين الرّافد الدّيني العثماني والمكوّن التركي الحداثي، تتواصل مسيرة الوفاء بالوعد، بعد دمقرطة العلمانية التركية والانتقال بها من العلمانية العسكرية المتدخِّلة إلى العلمانية المدنية المحايدة. ففي 26 أفريل 1994م صرّح الرّئيس أردوغان لمجلة المجتمع الكويتية - وقد كان رئيسًا لبلدية اسطنبول - قائلاً: (إنّ آيا صوفيا وَقْفٌ للمسلمين، ولا يمكن تحويله إلى كنيسة مهما كلّف الأمر، فهو محضُ خيالٍ صليبي مريض، وسنعيد الوجه الإسلامي إلى اسطنبول، وسوف يعود آيا صوفيا كمسجدٍ للمسلمين..)، وقد وصل إلى الحكم سنة 2002 م، بعد محنة السّجن سنة 1997م عندما كان عُمدةً لمدينة اسطنبول منذ سنة 1994م، بسبب أبياتٍ شعرية كان يتغنّى بها، واتُّهم بالتحريض على الكراهية الدّينية، وهي:

(مساجدنا ثكناتُنا، قِبابنا خوذاتُنا، مآذننا حِرابُنا، والمصلّون جنودُنا، هذا الجيش المقدّس يحرس ديننا..).
آيا صوفيا من متحف إلى كنيسة إلى مسجد

وفي سنة 2011 م تمّ ترميم منبرٍ يعود للعهد العثماني بمتحف آيا صوفيا، وفي سنة 2013 م أعلنت حكومة أردوغان عن ترميمات جذرية على هذا الصّرح التاريخي، وفي سنة 2015م شهدت آيا صوفيا للمرّة الأولى منذ 84 سنة إذاعة القرآن الكريم خلال معرضٍ أقيم بها، وبمناسبة ذكرى فتح القسطنطينية خلال تلك السّنة صلّى الآلافُ أمام المتحف مطالبين بتحويله إلى مسجد، واستمرّ هذا السّلوك الدّيني خلال شهر رمضان وإحياء ليلة القدر سنة 2017م، وفي مارس 2019م صرّح الرّئيس أردوغان أنّ تحويل اسم آيا صوفيا إلى متحفٍ كان خطأً كبيرًا وإهانةً للتاريخ وانتهاكًا للقوانين، وأنّ إعادته إلى مسجدٍ يُعتبر مطلبًا يتطلّع إليه الشّعب التركي والعالم الإسلامي منذ سنوات، وأنّ إعادة فتح آيا صوفيا للعبادة هي بشارةٌ نحو عودة الحرّية للمسجد الأقصى.

وهو ما تحقّق يوم الجمعة 10 جويلية 2020م كوَعدٍ صادق، حيث ألغت المحكمة الإدارية العليا في تركيا قرار مجلس الوزراء الصادر بتاريخ 24 نوفمبر 1934م القاضي بتحويل آيا صوفيا من مسجدٍ إلى متحف، وفي ذات اليوم وقَّع الرّئيس أردوغان المرسوم الجمهوري الخاص بتحويله إلى مسجد، وسيُفتح للصلاة يوم 24 جويلية 2020م.

هذا القرار ليس طائفيًّا ولا يمثّل كراهيةً دينية، لأنّ آيا صوفيا كان في العهد العَلماني المسكوت عنه غربيًّا متحفًا وليس كنيسة، كما أنّ المسيحيين في تركيا لا يشكّلون طائفة إذ لا تتجاوز نسبتهم 01 بالمائة في تركيا، وهم يحتفظون بكنائسهم منذ السّلطان محمد الفاتح في تسامحٍ دينيّ بديع.

مواقف غربية متباينة على إثر قرار تحويل آيا صوفيا إلى مسجد

لكنّ الغريب أن ينفِر الغربيون خِفافًا وثقالاً من أجل الإبقاء على آيا صوفيا كمتحف، فقد قال بابا الفاتيكان: (أفكاري تتجه إلى إسطنبول، أفكّر بآيا صوفيا، إنني حزين جداً)، وقالت اليونان: (إنّ إعادة آيا صوفيا مسجدًا يمثّل إهانةً للحضارة المسيحية، واستفزازًا لمشاعر المسيحيين الغربيين)، ودعت الولايات المتّحدة الأمريكية إلى: (عدم المساس بوضع آيا صوفيا)، وقالت الكنيسة الأرثوذكسية الرّوسية: (إنّ إعادة آيا صوفيا إلى مسجدٍ هي عودةٌ إلى العصور الوسطى)، وقالت ألمانيا: (كان يجب التشاور مع منظمة "اليونيسكو" حول تغيير وضع موقع مدرج على قائمة التراث الثقافي العالمي)، وقالت لكسمبورغ: (إنّ قرار عودة آيا صوفيا إلى مسجد بمثابة انتكاسةٍ في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي ومكانة تركيا في العالم بشكل عام، وأنّها ضربةٌ ضدّ تحالف الحضارات)، بينما استنكرت فرنسا ذلك، وطالبت بأن يظلّ آيا صوفيا متحفًا مفتوحًا للجميع.

لكنّ الأغرب من ذلك كلّه هي ردود الأفعال التي ترجمت ذلك الرّعب غير المُستغرب من الرّياض والقاهرة وأبوظبي، كتعبيرٍ صارخٍ عن العطالة التاريخية والغيبوبة الذاتية في زمن الرّدة الحضارية عن الأمّة، ففي الوقت الذي تتّجه فيه السّعودية إلى مزيدٍ من تبديد الدّين كما النّفط، والعبثية بذلك الرّصيد الرّوحي بالانسلاخ والتغريب تتّجه تركيا إلى ذلك الوَصل المتصالح مع الإسلام والهويّة والتاريخ والحضارة.