في مقال سابق، ألمحنا إلى أن تطويع المجتمعات اليمنية القديمة للتنوع الطبوغرافي من حولها أفرز بيئة عمل تعاونية، مجموعة من التعاونيات الممتدة على البسيطة اليمنية، تلك التعاونيات هي من شكلت العلاقات والأدوار والسلوك الإجتماعي للأفراد، وفيما بعد صورة النظام السياسي والحضارة اليمنية القديمة في مجمل نتاجها، ولاحقا الدويلات اليمنية التي ظهرت على البسيطة اليمنية انهيار الخلافة الإسلامية العباسية.

التعاونيات سمة بارزة في المجتمع اليمني

في المناطق الجبلية تشكلت تعاونية المدرجات الزراعية والصهاريج وتعبيد الطرق ومد الجسور الحجرية وزراعة البن، وفي السهول والقيعان والنجود العالية تشكلت تعاونية الحقول الممتدة ومد قنوات الري وبناء السدود وزراعة القطن والبخور واللبان وحماية القوافل، وفي السواحل تشكلت تعاونية الموانئ والقوارب والصيد ونقل البضائع، وفي المدن تشكلت تعاونية الأشغال الحرفية وكبار التجار والضرائب والمعابد وجماعة الاقطاع وملاك الأرض والعبيد. 

وفي أوقات كثيرة عملت هذه التعاونيات بمجملها في تعاونية واحدة، حدث ذلك في وقت لاحق حينما تطورت بنية المجتمع ونظامها السياسي، وتشكلت مع ذلك ملامح الدولة اليمنية القديمة، وفي ذلك يقول الدكتور «جواد مطر» أثبتت الدراسات والأبحاث الأثرية أن اليمنيين أنشأوا في عصورهم الحضارية تعاونيات بنظم وقوانين تعد من أحدث وأرقى نظم وقوانين التعاونيات في العالم. 

ويعود الدكتور «فضل غانم» في مؤلفه "البنية القبيلة في اليمن" بهذه التعاونية إلى العلاقات التي يمكن إرجاعها إلى ديناميكية الحركة والنشاط الاقتصادي والسياسي، يذكر ذلك في معرض كلامه عن تشكل اتحادي قبيلتي (حاشد وبكيل).   

تأثير العوامل الطبيعية على البيئة الاجتماعية في اليمن 

 لا نذهب بعيدا إذا قلنا أن عوامل البيئة الاجتماعية في حياة الفرد اليمني خضعت هي الأخرى لعلاقته بالعوامل الطبيعية من حوله والتأثير المتبادل بينهما، "فالنظام الاجتماعي لا يخرج عن كونه تنظيما لنماذج التفكير والتصرف التي تظهر خلال النشاط الاجتماعي وما يتصل به من إنتاج مادي، وهو بالتالي عبارة عن تجميع القواعد الاجتماعية السائدة في المجتمع والتي تتكون من العادات والتقاليد والقيم والصفات الأخلاقية المنظمة بوعي أو بدون وعي كوحدة وظيفية"، أسس ذلك النشاط الاجتماعي بمجمل قواعده بنية المجتمع ومسرح النشاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني، نوعا من النظام التلقائي.

في البداية كانت مجموعة الأسر الأبوية في المجتمع اليمني تُشكل تعاونية صغيرة "نظام رعوي"، أو ما يمكن أن نسميه "قرية" قريتم في اللغة السبئية، تبرز العلاقات الأسرية فيها وفق طابع العمل والجهد الجماعي التعاوني التكاملي، وتأخذ المكانة الاجتماعية للفرد معاييرها من خلال العمل والإنتاج، فالذكور يقضون كل ساعات نهارهم في العمل خارج البيت، ويأخذ الفرد منهم صفة الرجولة من خلال مظهر العمل والكفاح لصالح المجموعة، والمراة هي الأخرى جديرة بالرجل إذا كانت تساعده في عمله، وهي الأخرى منهمكة طوال ساعات النهار في أعمال البيت، وما تحيطه من الحوايا والحضائر وزرائب الحيوانات، وفي الغالب كان يسبق علاقة التزاوج بين الأُسر علاقات كونها العمل والمصالح المشتركة. 

العمل والإنتاج أساس تكوين القبيلة في اليمن

كونت مجموعة القرى بدورها ما يمكن أن نطلق عليه "محفد" مجموعة من الحصون، أو قبيلة، وإن لم يرد هذا الأخير – لفظ قبيلة - في النقوش اليمنية، إلا أنه ظهر نوعا من التحالف بين هذه القرى، أو ما يمكن أن نسميه "شعبم" شعب في النقوش السبئية (RES 3945)، يأخذ هذا التحالف أو "الشعب" إسمه إما من الأسرة التي تملك الأرض الكبيرة، أو من الأسرة ذات النفوذ والقوة، أو من مسميات طوطمية، وأحيانا مكانية استيطانية، وأحيانا مسميات بدائية معبرة عن التحولات الاجتماعية التي تُفرق بين المراحل الأولى من حياة ذلك الشعب والمراحل التالية – بعد صياغة التحالفات – كتعبير عن التفرقة والتحول، وفي الغالب لم يكن ذلك المسمى ذو علاقة برابطة الدم، وإنما تشكلت هذه القبيلة أو كما يسميها الدكتور جواد مطر "وحدة إنتاجية" اتحاد فرضته ظروف العمل كنوع من التكامل الاقتصادي. 

وفي ذلك يقول الدكتور أحمد علي الأحصب في دراسته الصادرة مؤخرا "هوية السلطة في اليمن جدل السياسة والتاريخ" يقول: "إن الاعتقاد بتأسيس التقسيم القبلي المعروف اليوم في اليمن على رابطة الدم هو اعتقاد غير دقيق، ويحملنا توضيح هذه المسألة على العودة إلى اليمن القديم، حيث كان المجتمع يتكون من تنظيمات اجتماعية عرفت بـ(شعوب) ومفردها (شعب) وهي تجمعات تقوم على المصالح الاقتصادية والسياسية لا على رابطة الدم، ثم يضيف، وفي التقسيم القحطاني، هناك من يشير إلى أن النصوص المسندية لم تذكر حمير بصفتها شخصاً.ويرى مطهر الإرياني في مؤلفه النقوش الحميرية أن حمير قد لا يكون نسباً وإنما صفة اجتماعية تدل على مستوى معين من التطور الاجتماعي، وإن مدلولها اللغوي يعني "حضر ".

ولما كان أساس تكوين القبيلة هو رابط العمل والإنتاج حسب تعبير الدكتور جواد علي في المفضل، لا أواصر القرابة والدم، فإن ذلك سهّل عليهم تقسيم كل قبيلة إلى أثلاث وأرباع وأخماس حسب حجم القبيلة المراد بها الوحدة الانتاجية، وما يزال لهذا التقسيم وجود إلى اليوم، أي أن الحاجة الاقتصادية السياسية هي التي تقرّر وظيفة الوحدة التي تُسمى القبيلة، وتتحكم في مسلكها وتحدد دورها في الإنتاج. 

ويؤكد الدكتور «محمد الحداد» بقوله إن هذه الوحدات الانتاجية ما نسميها هنا "وحدة تعاونية" المسماة بالقبيلة كانت عامة في جميع الدول والإمارات اليمنية القديمة، ويضيف أن تركيب القبيلة في عرف الدولة اليمنية القديمة كان على أساس العمل والإنتاج، لا على أساس القرابة والدم.

أخيراً، لا زالت هذه سمة أساسية وأصيلة في عرف القبيلة اليمنية، يأخذ الفرد صفته وانتسابه لها من خلال صيغة التعاون التي تفرضها بنية القبيلة وتقاليدها، فمثلا: يفقد الفرد ارتباطه بالقبيلة لمجرد أن يخل بأي عرف تعاوني سبق وسنته أعراف القبيلة، ويأخذ الفرد مكانته في القبيلة بمدى التزامه بتلك التعاونيات. 

ما بقي من تكل التعاونيات، ما يُسمى في العرف القبلي اليمني بـ"الغُرم" وهي غرامة مالية يدفعها الأفراد البالغين في القبيلة بالتساوي، وتدفع لقبيلة أخرى في حال ارتكب أي فرد من أفراد القبيلة مشكلة ترتب عليها دفع تكاليف مادية، والفرد الذي لا يدفع يفقد صفته وارتباطه بالقبيلة، وإن ظل يحمل اسمها، إلا أنه عمليا لم يعد منها، حتى يدفع وترتب على عودتها اشتراطات والتزامات في حال أخل مرة أخرى، وهذه الغرامات المالية، أخذت الصيغة النقدية حديثا، بينما كانت في التاريخ اليمني كانت تأخذ طابع الجهد والبذل البدني بالعمل في الزراعة والحقول والقتال الخ، ولا يتوقف الأمر على دفع للقبائل الأخرى، بل أحيانا قد تدفع في سبيل إنشاء السدود والمدارس التعليمية أو شق الطرق وبناء المساجد وآبار الماء.