في عام 1905 عالج سيجموند فرويد إبن أحد أصدقائه وهو ولد صغير اسمه هانس غىراف. كان هانس يعاني من خوف عصابي من الخيول ويرفض الخروج من البيت. وبعد جلسات علاج التحليل النفسي قدم فرويد تشخيصا غريبا نوعاً ما وهو أن الخوف العصابي من الخيول كان بسبب شعور الولد بالذنب الناتج عن رغبته الدفينة في ممارسة الجنس معَ أمه.
ويواصل فرويد تفسيره قائلاً إن الولد كبت رغبة السفاح هذه خوفاً من أبيه الغيور فيما بعد تم تفنيد هذا التحليل الذي قدمه فرويد. حيث قدم عالم النفس كريستوف إيشينرودر في أحد كتبه أخطاء فرويد تحليلا مختلفا لخوف الولد. وبعدها تراجع فرويد نفسه عن هذه النظرية وقد علق علي عزت بيجوفيتش على هذا التحليل لدى الملحدين والماديين رغبة ما غير قابلة للتفسير في القضاء على كل ماهو مقدس وكل ما يعيننا على النظر إلى الإنسان باحترام. (1)
هذه الرغبة في تقويض الخصائص الإنسانية من السمات الأساسية للماديين على طول التاريخ الذي يمتد من ديموقراطيس وابيقور في اليونان قديما وديفيد هيوم وسبينوزا في عصر تنوير وسام هاريس حديثا إحدى تجليات هذه الرغبة إنكار المادية لكل ما يميز الإنسان عن الكائنات الدونية وإحدى هذه الانكارات إنكار لحرية الإرادة تلك الملكة التي يقول عنها الحكيم العالمي إيمانويل كانط من بين الأمور التي يمكن تصورها في هذا العالم أو خارجه لا يوجد شيء يمكن عده خيراً على وجه الإطلاق ودون قيد اللهم إلا شيء واحد الإرادة الخيرة (2)، إن القول بأن الإنسان مجبر على ما يفعل بالفعل قوة حوانية أو خارجية من أكثر الأفكار الحادية عبر التاريخ.
إحدى أوائل الفلاسفة الذين تكلموا عن حرية الإرادة الفيلسوف اليوناني ديموقراطيس فقد رأى بأن الكون يتكون من ذرات غير قابلة للقسمة تتحرك في الخلاء منذ الأزل بصفة مستمرة تحت قانون الضرورة والإنسان ليس استثناء لهذا القانون فهو الآخر يرزح تحت قانون ضرورة. يقول لا شيء يحدث للاشيء بل يحدث كل شيء على أساس وبحكم الضرورة (3)، وهذا الكلام هو الذي رفضه أبيقور أحد أتباع ديموقراطيس الذي جاء بعده.
بخصوص حرية الإرادة يقول أبيقور إن ذرات ديموقراطيس أسوء من فكرة القدر نفسها من الأفضل أن نكون أسرى لفكرة الآلهة في علم الأساطير من أن نكون عبيدا لفكرة القدر عند فلاسفة الطبيعيين، وذلك لأن الأولى تسمح على الأقل بفسحة من الأمل عبر التقرب للآلهة بالعبادة في حين أن الأخرى تنطوي على ضرورة لاسبيل للفكاك منها (4) رفض ابيقور نظرية لا إرادة حرة هذه تماماً كما رفضت فيزياء الكوانتم نظرية الحتمية في عالم الفيزياء.
تبعت ديموقريطس في إنكار حرية الإرادة أحد الماديين القرن الثامن عشر توماس هوبز لكنه قام بإعادة تعريف حرية الإرادة تعريفا جديدا فقال يجوز أن نستنتج من خلال إستخدام عبارة إرادة حرة وحرية الإرادة في الرغبة أو في الميل بل حرية الفرد كامنة في عدم مصادفة العوائق أمام تحقيق ما يريد أو ما يرغب أو يميل إلى القيام به (5) يقصد حرية الإرادة تكمن في تحقيق الفرد لغرائزه.
ولكن إذا سلمنا بهذا التعريف في تحليل النهائي سنجد الفئران والطيور وكل الكائنات الدونية تملك إرادة حرة لأنها هي أيضاً تملك رغبات ولها ميول وتستطيع إشباعها وبهذا نكون قد أعدمنها ونزعنا عنها صفة الفضيلة وكل القيمة.
وليس ببعيد أن تكون الكائنات الأدنى هي الأكثر حرية من الإنسان لأن هناك قيود كثيرة تقف بين الإنسان وبين تحقيق غرائزه منها قيود القانون والدين والعرف والمجتمع وهذا لا يوجد لدى الكائنات الأخرى.
حسب هوبز فإن مدمن المخدرات هو الآخر يملك إرادة حرة لأنه يجد نفسه مدفوعاً برغبة تعاطي المخدرات فيلبي هذه الرغبة هذا هو حر هوبز، مكبل بالاغلال مدمن للمخدرات لا يملك نفسه وفقد السيطرة عليها. مدمن المخدرات حسب هوبز يملك حرية الإرادة هو والإنسان غير المدمن سواء. لكننا نعلم يقينا أن هناك فرق بين الإنسان سوي من جهة والمدمن والكائنات الدونية من جهة أخرى وهذا الفرق هو القدرة على رفض تحقيق رغبة السمو فوق الغرائز وضع قانون بشكل قبلي والخضوع له وهذا ما لاي وجد لدى المدمن ولا الكائنات الأخرى ولهذا نقول عنهم ليسوا أحراراً.
يقول الماديون بأن الدوافع العقلية الصرفة لها وزن كبير لدى الإنسان المعاصر في مواجهة الغرائز والأهواء (6) إذا كان الأمر هكذا فلماذا إذن كتب لنا سجموند فرويد نفسه 22 كتابا ولماذا ظل كارل ماركس إثنى عشر ساعة وعشرون سنة يؤلف الكتب ويبحث عن أفكار جديدة إذا كانت الدوافع العقلية الصرفة لا وزن لها على هذا يكون فعلهم هذا لا غاية له ولا أثر في تغيير الواقع والواقع يقول أن هذا غير صحيح.
قديما تطرح حجج فلسفية لتدعيم الرأي القائل ليس للإنسان إرادة حرة أما الآن فالأمر اختلف نوعاً ما فقد دخل على الخط بعض التجارب العلمية ويشير الماديين بقوة هذه الأيام إلى إحدى هذه التجارب قام بها عالم الأعصاب بنيامين ليببت سنة 1983 تنص هذه التجربة أن الدماغ يطلق الجهد الإستعدادي للفعل قبل أن نصبح واعيين بذلك.
استنتج سام هاريس بأن الإرادة الحرة هي وهم نحن ببساطة لا نصنع إرادتنا الأفكار والنوايا تنشأ من أسباب خلفية لا نعيها ولا نملك سيطرة واعية عليها نحن لا نملك الحرية كما نعتقد (7).
لكن ما لم يخبرنا به سام هاريس هو أن بنجامين ليبيت صاحب التجربة نفسه لم يقول بأن تجربته تتعارض مع حرية الإرادة لأنه رغم إطلاق الجهد الإستعدادي للفعل لا زال لدينا حق الرفض أي لازال يمكننا أن لا نفعل أن نقول لا وهذا هو جوهر الحرية جوهر الحرية هو الرفض إذا كان الإنسان قادرا على أن يقول لا فهو هكذا يكن حرا.
بخصوص أن النوايا والأفكار تنشأ من أسباب خلفية نحن لا نملك سيطرة عليها فالحرية الإرادة لا تتعلق بالأشياء التي تقع لنا بل بالأشياء التي نحن نوقعها، إضافة أن الاستدلال بتجارب علمية على أننا لا نملك حرية الإرادة لا يستقيم لأن العلم لا يعمل بدون مبدأ السببية فأين ما كانت الضرورة العلم يكتشفها أما ما لا يخضع لسببية والضرورة العلم لا يكشف عنه ببساطة يفلت من بين يديه كما يفلت الهواء والماء من قبضة اليد وحرية الإرادة بتبسيط شديد هي لا سببية هي غياب الضرورة.
أما ما يلزم الملاحدة من نفي الإرادة الحرة فهو قبيح للغاية منها على سبيل المثال إعدام الفضيلة بكل أنواعها سواء الخلقية أو العلمية أو السياسية لأننا نبجل الرجل صاحب الأخلاق الرفيعة والعالم صاحب الأفكار العظيمة والرجل السياسة صاحب المشاريع الكبيرة لأن كل هذه الأشياء هي ناتجة عن إختيار وعمل لا عن إضطرار!
إن الإنسان يملك إرادة حرة فهذا مما لا شك فيه ويقين هذا القول أقوى من حجج الماديين لم تلده إمرأة هذا الذي يستطيع أن يدحض إحساسي بأني أملك القدرة على أن أفعل شيء عينه أو لا أفعله أن أثبته أو انفيه أن أقدم أو أحجم، فواضح أن هذه هي الحرية أنا أملك حرية الإرادة عندما أفعل ما يقول لي العقل أنه حق وفيه خير لي وأنا عبد عندما أفعل عكس ذلك.
إذا سلمنا أن الإنسان يملك عقلا وهذا مما لا يشك فيه مجنون فإن كلمة الضرورة والحتمية تعتبر عاطلة عن المعنى فمن الواضح أن العقل يتضمن الحرية كما يتضمن أعلى أسفل أو كما يتضمن الشمال اليمين، فالعقل يملك المقدرة على فك كل الأغلال والقيود التي تجعل الإنسان عبدا لأهواءه وإنفعالاته، العقل هو من يجعل الإنسان سيدا على نفسه بشرط أن يكون هو الذي يسود أن يقود هذا الجيش من العواطف والانفعالات.
وإذا سأل مادي ما الذي يجعلوني أجزم هكذا بأن الإنسان يملك حرية الإرادة أجبته إحساسي بأن عقلي منفك عن كل حواسي وغرائزي هو الذي يجعلوني على يقين بهذا الكائنات الأخرى لا تملك هذا الانفكاك بين الغرائز والعقل، أضف أن إحساسي عندما أكون عبدا انسياقي وراء إنفعالاتي وغرائزي هو الذي يجعلوني على يقين بهذا وإحساسي بالحرية عندما يتكلم العقل داخلي عندما تصرخ الروح قائلة لا سيد هنا غيري أنا أشعر أني حرا حرية تامة كاملة.
أكون حرا عندما تتبع غرائزي عقلي وأكون عبدا عندما يحصل العكس، فأنا عبد عندما ينسق العقل وراء الغرائز، الحرية تبدأ عندما يسود المبدأ الأسمى وهو العقل المبدأ الأدنى وهي الطبيعة الحيوانية فهذه هي الحرية وبعد هذا لا أفقه شيئا.