تبدو الكتابة التاريخية الاجتماعية السياسية، من الأمور التي ليست بتلك السهولة، لأنها غوص في جوانب عدة، ثم المواءمة بينها في قالب منهجي، يقنع القارئ بصوابية العرض، وفهم المنهج.

     والكتاب الذي بين أيدينا للكاتب الكويتي مبارك الجري (تحولات الإسلام السياسي) قد يكون من هذا الطراز، الذي تمكن بجدارة أن يوائم بين الأطروحات الثلاث، فهو يقدم أطروحة تاريخية واجتماعية لحركة النهضة، ويسلط الضوء على بعض مواقفها السياسية، وفهمها لنموذج المواءمة بين السياسة والدعوة. ولكن هل نجح الكاتب في مسعاه؟ وهل من باب أولى نجحت النهضة دعواها؟

الإسلام السياسي

      لا يخلو عنوان الكتاب من إشكال كون مصطلح "الإسلام السياسي" مثقلا بحمولات السياسة والفعل السياسي لدى الأحزاب الإسلامية العاملة في الدعوة والعمل السياسي، هذا المفهوم الجزئي الذي لا يصف الحالة الفعلية الواقعية للأمة ولا للأحزاب، بدأ استعماله - كما يقول البعض- في أعقاب لقاء جمع الزعيم الفلسطيني، الحاج أمين الحسيني مع الزعيم النازي أودلف هتلر، في ثلاثينات القرن الماضي، عندما احتك بالحالة العربية الإسلامية والعربية، أو نتيجة لرؤية الغرب للفعل السياسي لدى الأحزاب الإسلامية. 

 

وهو رؤية للمصطلح لا تبتعد، في المحصلة، عن مصطلح الإسلام الأصولي أو الإرهاب، أو الإسلام المعتدل، أو القومي أو أي توصيف يجري لصقه بالإسلام لتوصيف الحالة الراهنة له، حيث لم يستطع الغرب تحديدها، إما لعجز الغرب عن فهمه لهذا الدين، وعالميته وأصوله، أو لتعمد وضع فهم مغلوط في إطار الحرب على الإسلام

 

      بنظري، لا أجد معنى سائغا لمصطلح الإسلام السياسي، ذلك أن الإسلام دين شامل لكل مناحي الحياة، وهذه الشريعة شريعة كاملة، عامة لكل البشرية، تدخل في نمط الحياة للفرد والأسرة والمجتمع والدولة. 

ومحاولات تغييب الإسلام عن كل أنماط الحياة هو الذي جعل المسلم على حذر من المصطلح، وتبعا لذلك بقي السؤال الإشكالي قائما لدى المسلم: لماذا يحق لغير الإسلامي، أو غير المنتمي لحزب إسلامي العمل السياسة، ولا يحق للمسلم التمتع بذات الحق؟ على أساس أن الدين لا يفرق بين السياسة والأسرة والاقتصاد.

      تجزئة الدين وتنميطه، إلى مستنير ومعتدل ووسطي وتوافقي وغربي وشرقي وعربي وأعجمي وإرهابي ومتطرف وعنيف... أمر مرفوض، بقدر ما يرسم في مخيلة المسلم خطورة تمس حتى النص الديني وتأويلاته بحسب الهوى والمصلحة والغاية، وحتى مستويات الإيمان ذاته، كما قال تعالى:

    ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ (البقرة: 85). فالبعض يعتقد أن السياسة ليست من الدين، وأن هؤلاء الإسلاميون إنما يمارسون السياسة وفقا لأهوائهم، أو تسيدا لأفكارهم، أو لمبتغى دنيوي!

محتوى الكتاب

     الكتاب من مطبوعات مركز الانماء المتميز في نشر الاطروحات المتميزة في الشريعة والفكر السياسي.

      ولا شك أن هذا الكتاب هو أحد المطبوعات المتميزة والهادفة والجادة، وهو من القطع الصغير، ويحوي 365 صفحة بما فيها الفهرس، وقائمة المصادر، لكن الكتاب يخلو من مقدمة عامة! أما فصوله فتتوزع على أربعة:

 عالج الفصل الأول منه الإطار النظري للبحث، متضمنا الإشكالية وعرضا مطولا للدراسات السابقة.

     أما الفصل الثاني: من 77-148 فقد تضمن حديثا حول ثقافة المجتمع التونسي وتجديدية النهضة، عرض فيه تأثر الحركة بالبيئة التونسية وخصوصية التجربة، من حيث الانقطاع عن الفكر الإسلامي المشرقي، وتوجه الحركة نحو الفكر الغربي، في إطار الحديث عن مصطلحات التفاعل والتجاوز والانفصال.

 

 

وجعل الكاتب الفصل الثالث حول التفاعل الاجتماعي وتبلور الفكر السياسي، وكيف تحول الفكر الدعوي عند الجماعة إلى الفكر السياسي، وكيف تمكنت حركة النهضة من التكيف مع المستجدات السياسية في تونس، واتخذت لها مكانا إلى جانب الاطروحات الليبرالية والعلمانية هناك.

     وخصص الكاتب الفصل الرابع لمرحلة علاقة النهضة مع الثورة، وتجربة الحكم هناك.

ما الخاتمة فكانت بمثابة تلخيص لأطروحة الكتاب وأهم النتائج التي توصل إليها الكاتب.

نقد وتقييم

     لا يبدو أنه كان في ذهن الكاتب، وهو يكتب عن حركة النهضة أي توجه نقدي، أو حتى تقييم لعملها من خلال الرصد التاريخي، ذلك أنه بطبيعة الحال غريب عن البيئة التونسية، مثلما هو أيضا غريب عن البيئة الحركية الإسلامية، لهذا، ولأسباب ما، لم يتضمن الكتاب أية أطروحة نقدية تمس من توجه الحركة، أو نقد لسياساتها وتحولاتها مثلا من الدعوي إلى السياسي.

     والثابت أن أي جماعة أو تيار، لا بد وأن يكون موضع نظر للمراقب والراصد والمحلل من حيث القراءة والنقد والتقييم طالما أنها تتحدث في شأن العامة. ولا شك أن حركة النهضة بحاجة ماسة لمثل هذا الفعل في ضوء مواقفها الدعوية والسياسية وتبدلاتها المرعبة والمخيفة، والتي تبدو معها الحركة وكأنها انسلخت فعليا من أصولها الدينية، وألقت بنفسها طواعية في رحم العلمانية!

      فقد بدأت جماعة النهضة كجماعة دعوية متأثرة سلوكيا بجماعة التبليغ، وفكريا بجماعة الإخوان. لذا لم تكن لها أدبيات ولا فقه في الدعوة إلا ما كان من إنتاجات جماعة الإخوان المسلمين. لكن بعد فترة، ليست بطويلة، من الزمن تغيرت دعوى الحركة لتغدو أقرب ما تكون إلى العلمانية من أية جماعة إسلامية. فلماذا؟ وما هو موضوع التغييرـ وما هي مصادره التي أوقعتها في أتون العلمانية؟

 المسألة الأولى

        كانت في التأثر الحاسم الذي يرتبط بجذور تاريخية بالمدرسة الإصلاحية العلمانية ممثلة بالشيخ محمد عبده في مصر والطاهر الحداد في تونس. فهذه المدرسة ذات نزعة وطنية قومية حادة، قد تناهض الدين والأمة، بل وتدعو للوطنية الضيقة، والانطوائية وصولا إلى هجر الدين وحتى معاداته! لذا لم يكد يمض عقد على بدايات نشأة الحركة في أول سبعينيات القرن العشرين التي اشتهرت باسم "حركة الاتجاه الإسلامي في شمال أفريقيا" حتى كانت في آخره أبعد ما تكون عن المسألة الاجتماعية.

  المسألة الثانية

      فتقع في إطار التنصل من الانتماء للمدرسة الإسلامية الإصلاحية، وتمثلت في المفاصلة مع تراث الاخوان خاصة، والتراث السلفي عامة. وبارتمائها في أحضان المدرسة الإصلاحية العلمانية. وتبعا لذلك، لم تعد حركة النهضة تجد حرجا في التصريح بنفي أية علاقة تاريخية لها بالإخوان المسلمين كعنوان للمدرسة الإصلاحية الإسلامية.

     من جهته؛ يدعي الكاتب، أو بالأحرى حركة النهضة، أنها قامت بقطيعة مع فكر الإخوان، في حين لم يذكر الكتاب إلا قطيعة فكرية مع سيد قطب. وما عداه لم يتعرض له الكاتب ولا الحركة إلا على استحياء.

مخلفات القطيعة

      النهضة، وهي تقرأ الإسلام من خلال واقعها، لم تقرأه من خلال واقع المجتمع المسلم، بقدر ما قرأته من خلال الواقع السياسي العلماني. فكان من الطبيعي أن تبتعد عن الهموم الخاصة للتونسيين، فضلا عن الهموم العامة للأمة. وباختياراتها هذه كان لا بد أن تتعرض للكثير من الاستنزاف والتنازلات التي لم تهبها من الامتيازات أكثر من البقاء في السلطة، وَجَساً من إقصائها وملاحقتها والزج بها في السجون، بحسب شيخها عبد الفتاح مورو.

 

    هذه الخشية على الذات؛ كانت الحركة تدفع ثمنها من الإسلام، عبر موافقتها أيضا، على دستور استوحى عبارة "حرية الضمير"، من الدستور الفرنسي حرفيا، بديلا عن المعنى المرادف لـ "تجريم التكفير"، الذي كان مقترحا لولا أنه أثار ضجة حتى داخل البرلمان التونسي، وجرى تبعا لذلك استحضار المصطلح الفرنسي لتخفيض مستوى التوتر الحرج.

     ومما دفعته الحركة أيضا ثمنا لبقائها في السلطة، كان اعتراضها المبكر على مقترح قانون يجرم "التطبيع مع إسرائيل"، فيما بدا العلمانيون التونسيون آنذاك أكثر جرأة منها، وكذا رفض التنصيص على تضمين الدستور بندا يعتبر "الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع"، والاكتفاء بالمادة الأولى من دستور 1959، والذي يكتفي بالقول أن: " تونس دولة حرة ومستقلة وتتمتع بالسيادة، دينها الإسلام ولغتها العربية ونظامها الجمهورية"! وهو ما انتهى لاحقا إلى تصريح الرئيس السابق قائد السبسي بأن "تونس دولة  لا علاقة لها بالشريعة"، هذا ناهيك عن الفصل التام بين الدعوي والسياسي فيما يشبه تأبين هوية الحركة وتاريخها.

أخيرا يمكن تلخيص ما جاء في الكتاب في النقاط الثلاث التالية:

  1.  الكتاب يقدم سردا تاريخيا، لكنه لا يعالج موقف الإسلام من التقلبات السياسية للحركة.
  2. الكتاب يوصف حال حركة النهضة، فقط دون التطرق لغيرها، مع أن الأمور التاريخية السياسية والاجتماعية عبارة عن شبكة علاقات تتواصل وتتنافر.
  3. الكاتب لم يتجرد موضوعيا، مما يعرض ويكتب، بل في ظني أنه تماهى مع الحركة مؤيدا كل مواقفها.