قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [سورة مريم الآية: 32‑33].

بدأ عيسى عليه السلام كلامه بأن الله وحده هو الإله الرب، لا يشاركه أحد في ألوهيته وربوبيته، وأنه عليه السلام عبد له مخلوق، خلقه الله خلقاً خاصاً بمعجزة خارقة، من دون أب، وأنه عبد الله وليس شريكاً له ولا ابناً له[1].

قال الإمام ابن كثير: «أول شيء تكلم به أن نزّه جناب ربه تعالى وبرّأه عن الولد وأثبت لنفسه العبودية لربه»[2].

فالله وحده هو الرب الإله، وكل ما سواه له عبد، وأي خلط بين الإله والعبد يعتبر كفراً بالله وشركاً به، فإذا ما رفع قوم عبداً من عبيد الله وجعلوه ندّاً لله صاروا كفاراً مشركين بالله.

وهذه البداية الإيمانية لعيسى عليه السلام التي بدأ بها وهو طفل في المهد يقرر فيها أنه عبد الله، وأن الله وحده هو الرب، تكذيب مبكر لما سيقوم به ـ بعض الناس ـ فيما بعد عندما ادّعوا أنه ابن الله، وبعدما أقر عبوديته لله تحدث عما سيعطيه الله في المستقبل فقال: ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ [مريم: 30]، وهذا على تقدير المستقبل: سيؤتيني الكتاب، ويجعلني نبياً، والمراد بالكتاب هنا الإنجيل، الذي سيؤتيه الله إياه ويجعله مصدقاً للتوراة قبله.

لم يتكلم عيسى الوليد بهذا الكلام من نفسه وإنما كان بإلهام من الله، ألهمه أن يقول هذا القول، وأخبره أن سينْزل عليه الإنجيل، وسيَجعله نبياً رسولاً.

وإذا كان قوله (إني عبد الله) تكذيباً مبكراً لما سَيدعيه ـ بعض الناس ـ من نبوّته لله من بعض فرق النصارى، فإن قوله (وجعلني نبياً) تكذيب مبكر لما سَيدعيه اليهود، حيث سيكفرون به وينكرون نبوته ويحاولون قتله.

وقول عيسى عليه السلام بعد ولادته ﴿نَبِيًّا﴾، هو تطبيق عملي للوعد الذي بشر به جبريل عليه السلام مريم قبل فترة من حملها بعيسى ووضعها له وهو الذي ذكره قوله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ۝ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران الآية: 45-46].

وقوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران الآيتين: 48-49].

أ ـ معنى كون عيسى مباركاً:

تابع عيسى عليه السلام تقديم نفسه بكلامه الواضح المبين: الله بارك وأفاض بركته ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ [ سورة مريم الآية: 32]، فصرت مباركاً أين ما كنت ووجدت، وفعل كنت هنا: فعل ماض تام، بمعنى وُجِدْتُ، والتاء: ضمير متصل في محل رفع فاعل. وكُنْتُ فعل الشرط، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. والتقدير: أين ما كنت ووجدت فقد جعلني الله مباركاً.

ومباركاً: اسم مفعول لأنه حلت به البركة من الله، ومع أنها عامة في معناها، شاملة بجميع صور البركة، إلا أن بعض السلف ذكر بعض مظاهر هذه البركة. قال مجاهد: مباركاً: جعلني نفاعاً، وقال سفيان الثوري: جعلني معلماً للخير حيثما كنت. ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ كنت: على أن بركته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان)[3].

ب ـ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا 

هذا على ما سيكون في المستقبل: أي سيوصيني بالصلاة والزكاة طيلة حياتي، أي: أوصاني بالقيام بحقوقه التي من أعظمها الصلاة، وحقوق عباده التي من أجلِّها الزكاة، مدة حياتي أي: فأنا ممتثل لوصية ربي، عامل عليها منفذ لها، وفي ذلك إشارة إلى أن التكاليف الشرعية لا تسقط عن العبد ما دام حياً عاقلاً.

ج ـ عيسى بارٌّ بأمه

وَبَرًّا بِوَالِدَتِي: وجعلني الله برّاً بوالدتي، والواو: حرف عطف. وبرّاً: معطوف على مباركاً. والمعنى: جعلني الله نبياً وجعلني مباركاً، وجعلني برّاً بوالدتي؛ ومعنى ذلك: التوسع في الإحسان إلى والدتي ووصلها؛ أي: لم يجعلني مستكبراً على الله فيما أمرني به نهاني عنه، ولكنه جعلني متواضعاً له متذللاً في طاعته.

وتشير الآية إلى جانبين: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ [سورة مريم الآية: 32]، الجانب الإيجابي في شخصية عيسى السوية عليه السلام، وهو برُّه بوالدته، والجانب السلبي الذي نزَّه الله شخصيته السويّة، فلم يجعله جباراً شقياً.

ومن كان عاقَّاً لوالديه كان جباراً شقياً عصياً؛ لأنه إذا لم يكن بارّاً بوالديه، فكيف يكون رحيماً بالآخرين؟ ومن لا خير فيه لوالديه لا خير فيه للآخرين، قال بعض أهل العلم: لا تجد عاقَّاً لوالديه إلا وجدته جباراً شقياً، ثم قرأ ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ [سورة مريم الآية: 32]. ولا تجد سيء الملكة والمعاملة إلا وجدته مختالاً فخوراً، ثم قرأ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ [سورة النساءالآية: 36].

وإذا وردت كلمة جباراً في القرآن وصفاً للإنسان، فإنها لا تكون إلا للذمّ؛ لأنه لا يكون جباراً إلا من كان مختالاً متكبراً وشقياً عاصياً، والإنسان الصالح لا يتجبَّر، لأنه يعلم أن العظمة والجبروت لله، فيتواضع بين يدي الله ويرحم الآخرين من عباد الله.

ولأن وصف الإنسان بأنه جبار ذمٌّ له، فقد نزَّه الله نبيَّه عيسى عليه السلام عنه، ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ [سورة مريم الآية: 32]، ونزَّه أيضاً معاصره يحيى عليه السلام عنه، حيث أخبره عنه بقوله ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ [سورة مريم الآية: 14]، وعيسى عليه السلام ليس جباراً شقياً[4].

د ـ السلام على عيسى دليل على بشريته

قال تعالى: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [سورة مريم الآية: 33]. وقد أخبر عيسى عليه السلام قوم مريم أن الله أضفى عليه السلام والأمان في المواضع الثلاثة الحرجة الخطيرة في حياته وهي يوم ولادته ويوم موته ويوم بعثه حياً يوم القيامة.

ومعنى الآية: الأمنة من الله عليَّ من الشيطان وجنده يوم ولدت، فلا ينالون مني ما ينالون من المواليد عند ولادتهم، وأمنة من الله عليَّ يوم أموت، من هول المطلع، وأمنة من الله عليَّ يوم أبعث حياً يوم القيامة فلا ينالني الفزع الذي ينال الناس عندما يعاينون أهوال يوم القيامة[5].

قال الإمام ابن كثير: «هذا إثبات منه لعبوديته لله، وأنه مخلوق من خلق الله يحيا ويموت ويبعث، كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال الثلاثة التي هي أشقُّ ما يكون على العباد»[6].

وحكمة تعريف السلام وتمييزه في قوله (والسلام عليَّ) وتخصيصه؛ لأن الله تعالى يعلم أن اليهود سيكذبون عيسى عليه السلام، ويكفرون به، ولن يكتفوا بذلك، بل سيحرصون على قتله وصلبه وهذا ما فعلوه به فيما بعد، ولقد حماه الله منهم، ولم يجعل لهم سلطاناً عليه، ولذلك رفعه إليه، ولهذه الحوادث التي وقعت له، خصَّه الله عزّ وجل بالسلام الخاصّ، فسلَّمه من اليهود ومكائدهم ومؤامرتهم[7].

وهكذا أنهى عيسى عليه السلام بيانه وقدم نفسه إلى قوم أمه، وذكر عبوديته لله الواحد، وذكر ما سيؤتيه الله من النبوة والكتاب، ومن السمات والمزايا الإيجابية القائمة على برِّه بأمه وتواضعه، وعدم تجبُّره وتكبُّره، وما سيضفيه عليه من السلام والأمان في حياته.

وتوقَّف عرض القرآن لقصة ميلاد عيسى عليه السلام عند هذا الحدّ، ولم يتحدَّث عن ردَّة فعل القوم لما سمعوا بيانه وكلامه، ولا عمَّا جرى لمريم رضي الله عنها بعد ذلك[8].