بداية، فلتعرف بكل وضوح وصراحة: لا علاقة لطلب العلم بطلب الدنيا، فطلب العلم أمر وطريق وطلب المال والوظيفة أمر آخر وسبيله مختلف. هذا أثمن ما يمكن أن أقدمه لك، أما غير ذلك مما يقصد به الربط بين العلم والوظيفة نيّة الراتب على حساب نية وقصد العلم محض افتراء ودجل وخلط للمفاهيم إذ تغيب العقول. وهو أمر ضرب العلم وحب العلم في مقتل، وتمتينًا للفكرة وتأكيد لها، فإن المولى عز وجل خاطبك بأمر إلهي في محكم كتابه: "اقرأ"، وجاءت الصيغة منفردة. فلم يربطها بعمل، إذ هي في ذاتها عمل.

مرشدو الراتب لا سبيل العلم

إن مرشدي الراتب هؤلاء لا علاقة لهم بالعلم، فلو كانت لهم علاقة بالعلم، لما ربطوا بين الوظيفة واختيار مجال البحث المعرفي وأنت تلحظهم _ عافانا الله وإياكم _ يوجهون الطلاب المقبلين على ولوج الجامعة مقر البحث والمعرفة على أساس الوظيفة أي مجالات العلم، ويركزون على مصطلح (مجالات العلم)؛ لأن هذا علم يجب أن نتكلم في أسراره وفي أسرار مجالاته لا في كم يجلب من الدريهمات؛ أي مجالات العلم يضمن لك فرصة عمل؟ لا بل أي المجالات أسرع من حيث التوظيف؟ كارثة نعيشها وبحاجة أن نتداركها!

دع عنك هذا التخصص لأن الوظائف فيه شحيحة، وماسمعته بأذني: أترك هذا التخصص فهو معدوم وظيفيًّا _ عندنا في المنطقة_ ميتٌ من حيث التوظيف وإدرار المال.

كيف لك أن تختار تخصصا يُعنى بالبحر، أو بمجال الطيران؟

بالله عليكم، كيف أصبح العلم مجرد وظيفة؟ هل تدركون ماذا صنعتم بقيمة العلم ومكانته وبعلاقة الأجيال بهِ؟ أرأيتم ماذا فعلنا بالعلم؟ وفي النهاية نتباكى ونلطم لأن مكاننا عند الأذيال لا في المقدمات!

الحق أقول لكم: كفاكم انحطاطا وأعطوا للعلم مكانته وأنزلوه قدره وكفاكم إساءة.

العلم ببساطة تلك الكلمة والنيّة الواحدة: "اقرأ" لا تشوبها شائبة. أما أن تجعلوا هدف العلم الأسمى هو الوظيفة، لم دنستم غاية العلم فأصبح مجرد غاية فانية دُنّست كذلك سبُلهُ ومشاربهُ، فغدا الغش سبيلا للحصولِ على الشهادة التي تمكنك من جني راتب مرموق!

إن حالنا لا يخفى على أحد، فنحن نحتاج إلى العلم المجرد للنهوض مما نحن فيه، لا أن نضيف ألما إلى ألم ونسكب علقمًا على علقمٍ.

طهر النيّة لا أن تجدد النية

نعم، هي عبارة مقصودة بكل دقة، إذ مطلوب منك تطهير نيّتك من دَنس الدنيا، فلا عيب أن أعترف وأقول: "كنتُ مخطئا". صحيح كنت مخطئا، لكنني عقلتُ كان الجميع من حولي يرشدوني إلى القراءة "اقرأ"، لتعمل، أو لتمتلك سيارة فارهة، أو لتمتلك بيتا جميلا فيه حديقة غناء. فالمهم لديهم هي الخواتيم المحسوسة الفانية. بصفة عامة، هكذا عرفتُ وأدركت الآن أنه مجرد تشوه وخلل. تشوه أصاب الجميع من حولي، وحاولوا أن يلبسوني ما لبسوا ويقنعوني بما اقتنعوا. لكنها كارثة، أن تربط بين العلم والمادة وأن تجعل رحلة العلم الطاهرة الماجدة الممجدة إلى غايات زائلة غايات دنيوية بحتة، وأن تجلس على مقعد الدراسة وقصدك الوظيفة الأعلى راتب

العلم طريق نور وضاء ينهض بالهمم إلى القمم ويرتقي بالأمم إلى النعم. لم نجد حديثا ولا آية تربط بين العلم والعمل أو الأصح نية العلم والعمل، بل نجد أن العلم ركن ركين، وحده، له نصوصه الخاصة ونيته الخاصة، والعمل وحده كذلك له متعلقاته الخاصة به.

العلّمُ معنى فكرة فلسفة تعقل، تفكر، بحث هذه الأمور والمرتكزات لا علاقة لها بالعمل الذي هو أشياء ملموسة مادة صرفة. بل إن النبوغ في العلم والإحسان إليه له انعكاس على جودة العمل وحسنه؛ أي أن العلم للعمل كالبساط والروح، لكنه بساط الجودة والإتقان، فالعلم مع العمل إتقان وإحسان وحيوية، ومعنى. والعمل من دون علم خاصة في أعمال معينة كالجسد بلا روح، لا فائدة ترجى من ورائه. بل قد يكون ضررا وبخاصة على مستوى الجمع العام.

إنْوِي نية العلم المجردة

الآن بعد أن طهرتَ نيتك وجددتها، إنْوِيْ نية طلب العلم، فحسبك أنك سلكت طريق العلم لله، طريق البحث والتفكر والعقل. البصيرة طريق لا تشوبه شائبة العلم الصرف. ولله هذا ما في جوف نيتك، وهنا تسلك الطريق السوي وتصبح ممن يطلب العلم بحق. والثمرة أنك ستختار فنا من فنونه على أساس المحبة العلمية الصرفة، والاستكشاف والتطلع لمعرفة أسرار هذا الفن الذي سيجعل في النهاية تقوم بدورك الاستخلافي على أكمل وجه، كما أنك الرابح؛ لأنك تطلب العلم للعلم، لا لفتات الدنيا وحطامها الزائل كما يفعل كثير والعياذ بالله. ويدل عليه كثير من حيث يعلم أو لا يعلم.

وهنا، لا بد من تساؤل مفاده: متى أصبح العلم مجرد غاية مادية، غاية تدر علينا مالا؟ في اليوم الذي أصبح هدف العلم مجرد تحصيل راتب، مجرد وظيفة. فقد أضحينا نحن مجرد ماديين بامتياز ومن ادعى غير ذلك وهو يدعو غيره لأن يختار التخصص الذي يضمن له وظيفة على حساب جوهر العلم وحقيقة العلم، يعرف جيدا أنه مادي وأنه غير صادق فيما يقول.

كما بدأنا بقاعدة، نختم بقاعدة مؤداها: العلم الذي سيجعل منك إنسانا بمعنى الكلمة جار متبوع في أي زمان ومكان، وما عليك إلا أن تطلب العلم لذات العلم، العلم من أجل العلم.

العلم الذي يعني روحا، وفلسفة معنى، هو بحث وسعي من أجل الاستكشاف والمعرفة من أجل الاختراع والإيجاد والابتكار، من أجل العمارة العظمى التي _ بكل صدق وبعيدا عن أي تحيز _ أخذ منها الغربي المساحة الأوسع، فهو الذي نتهمه ليلا نهار في كل منابرنا وجلسات تحاورنا بالمادية ونحن نسقي أبناءنا كأسها المر.

العلم الذي يعلمنا كيف نصنع، وكيف نشق الأجساد للعلاج، وكيف نفكر، وكيف نتحرر، لا علم الجيوب وانتفاخ البطون الذي ذاع صيته مؤخرا في كل المكبرات.

اطلب العلم بنية العلم المجردة النقية التي لا تخالجها أيّةُ نيّة. حرّر نيتك من غطرسة المادة. اختر تخصصك بعيدا عن هؤلاء. اختر تخصصك من منطلق حقيقة العلم. اسأل، لكن عن جوهر مجال البحث الذي ستختاره وفلسفته وجدواه. اسأل عن تكاليف السفر إليه، ولكن لا تجعلها حائلا بينك وبين ما يجب أن تفقهه، وتذكر أن طالب العلم في أجر مطّرد لو أخلص النية. اسأل عن حلاوة التحقيق، وعن روعة الإيجاد في مجال تخصصك، اسأل عن علماء وبحوث ودراسات مجال الاختيار، اسأل عن مجال نفع الإنسانية. اسأل عن المراجع وعن الرواد، أسأل عن النوابغ والمتميزين في مجال بحثك واهتمامك، وجالسهم لتصل إلى آخر ما وصلوا إليه، لتكمل الطريق وتحدث الجديد.

اسأل فالسؤال حقك. ولكن، على هذا المنوال يجب أن تسأل. أما غيره فمجرد تشوه أصاب بعض أفراد أمتنا نسأل الله لهم ولنا جادة الصواب.