حَرَصَ الصَّحابة رضي الله عنهم على الالتزام بآداب ومبادئ مهمَّة، كان لها عظيمُ الأثر في حسن الحفظ وتمام الضَّبط، وقدرتهم في تبليغ دعوة الله للنَّاس؛ ومن هذه الآداب، والأخلاق:
الإنصات التَّامُّ، وحسن الاستماع
فقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجلَّ في نفوس الصَّحابة، وأعظم من أن يَلْغَوْا إذا تحدَّث، أو ينشغلوا عنه إذا تكلَّم، أو يرفعوا أصواتهم بحضرته؛ وإنَّما كانوا يلقون إليه أسماعهم، ويشهدون عقولهم، وقلوبهم، ويحفزون ذاكرتهم، فعن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه في الحديث عن سيرته صلى الله عليه وسلم في جلسائه، قال: «... وإذا تكلَّم؛ أطْرَقَ جلساؤه، كأنَّما على رؤوسهم الطَّير، فإذا سكت؛ تكلَّموا....» [الشمائل للترمذي (352)].
قال الشَّيخ عبد الفتاح أبو غدَّة -رحمه الله -: «أصله: أنَّ الغراب يقع على رأس البعير، فيلقط منه القُراد، فلا يتحرَّك البعير حينئذٍ؛ لئلا ينفر عنه الغراب ويبقى القُراد في رأس البعير فيؤلمه، فقيل منه: كأن على رؤوسهم الطير».
وأيَّاً ما كان أصل المثل، فهو يدلُّ على السُّكون التَّامِّ، والإنصات الكامل، هيبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيماً له، وإجلالاً لحديثه.
ترك التَّنازع وعدم مقاطعة المتحدِّث حتَّى يفرغ
وهذا من تمام الأدب، المفضي إلى ارتياح جميع الجالسين، وإقبال بعضهم على بعضٍ، والمعين على سهولة الفهم، والتَّعلم؛ ففي حديث عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه السَّابق في سيرته صلى الله عليه وسلم في جلسائه، قال: «لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلَّم عنده أنصتوا له حتَّى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوَّلهم...»، أي: أنَّ من بدأ منهم الحديث والكلام، سكتوا حتَّى يفرغ أوَّلاً من حديثه، ولم يقاطعوه، أو ينازعوه، وبذلك يبقى المجلس على وقاره، وهيبته، ولا تختلط فيه الأصوات، ولا يحصل أدنى تشويش.
مراجعته صلى الله عليه وسلم فيما أشكل عليهم حتَّى يتبيَّن لهم
فمع كمال هيبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدَّة تعظيمهم له، لم يكونوا يتردَّدون في مراجعته صلى الله عليه وسلم؛ لاستيضاح ما أشكل عليهم فهمُه، حتَّى يسهل حفظه بعد ذلك.
ولا شك أنَّ هذه المراجعة تعين على تمام الفهم، وحضور الوعي؛ فمن ذلك حديث حفصة رضي الله عنها قالت: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنِّي لأرجو ألا يدخلَ النَّار أحدٌ إن شاء الله -ممَّن شهد بدراً، والحديبية»، قالت: قلت: يا رسول الله! أليس قد قال الله:﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ﴾[مريم: 71]، قال: «ألم تسمعيه يقول:﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقُوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾[مريم: 72]» [أحمد (6/285) وابن ماجه (281)].
ومن ذلك حديث جابر بن عبد الله، عن عبد الله بن أُنَيْسَ رضي الله عنهم؛ الَّذي رحل جابرٌ إليه فيه، قال ابن أنيس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الله العباد - أو قال: النَّاس - عُراةً غُرْلاً بُهْماً» قال: قلنا: ما بُهماً؟ قال: «ليس معهم شيءٌ، ثمَّ يناديهم بصوتٍ يسمعه مَنْ بَعُد، كما يسمعه مَنْ قَرُب: أنا الملك، أنا الدَّيَّان، لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنَّة أن يدخل الجنَّة، ولا ينبغي لأحدٍ من أهل النار أن يدخل النَّار، وعنده مظلمةٌ، حتَّى أُقِصَّه منه، حتى اللَّطمة»، قال: قلنا: كيف ذا، وإنَّما نأتي الله غُرْلاً بُهماً؟ قال: «بالحسنات والسَّيِّئات» قال: وتلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 17] [البخاري في الأدب المفرد (970) وأحمد (3/495) والحاكم (2/437 - 438) ومجمع الزوائد (1/133)] .
وهكذا استفهم الصَّحابة عمَّا خفي عليهم، واستوضحوا ما أشكل عليهم فهمه، وهذه المناقشة والمراجعة كان لها أثرٌ كبيرٌ في الفهم، والوعي، والحفظ.
مذاكرة الحديث
كان الصَّحابة -رضوان الله عليهم -إذا سمعوا شيئاً من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وحملوا عنه علماً؛ جلسوا، فتذاكروه فيما بينهم، وتراجعوه على ألسنتهم؛ تأكيداً لحفظه، وتقويةً لاستيعابه، وضبطه، والعمل به، فعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: «كنَّا نكون عند النَّبي صلى الله عليه وسلم، فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا؛ تذاكرناه فيما بيننا، حتى نحفظه».
وقد بقي مبدأ المذاكرة قائماً بين الصَّحابة حتَّى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة -رحمه الله -! قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا؛ تذاكروا العلم، وقرؤوا سُوَرَهُ».
السُّؤال بقصد العلم، والعمل
كانت أسئلة الصَّحابة بقصد العلم، والعمل، لا للعبث، واللعب، فكانت أسئلتهم مشفوعةً بهذا القصد؛ لِمَا علموا من كراهة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للمسائل العبثيَّة الَّتي لا يُحتاج إليها، ولِمَا سمعوا من تحذيره صلى الله عليه وسلم من كثرة السُّؤال، فعن سهل بن سعدٍ السَّاعديِّ رضي الله عنه قال: «كَرِه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسائلَ، وعابَها».
قال النَّوويُّ: «المراد: كراهة المسائل الَّتي لا يُحْتاج إليها، لاسيَّما ما كان فيه هتك ستر مسلمٍ، أو إشاعةُ فاحشةٍ، أو شناعةٍ على مسلمٍ، أو مسلمةٍ، قال العلماء: أمَّا إذا كانت المسائل ممَّا يُحتاج إليه في أمور الدِّين، وقد وقع، فلا كراهة فيها».
ترك التنطُّع، وعدم السُّؤال عن المتشابه
وذلك تطبيقاً لتحذير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من ذلك، وتشديده على المتنطِّعين، ونهيه عن مجالستهم؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فإذا رأيت الَّذين يَتَّبِعون ما تشابه منه؛ فأولئك الَّذين سَمَّى الله؛ فاحذروهم!» [البخاري (4547) ومسلم (2665)].
ترك السُّؤال عمَّا سكت عنه الشَّارع
فقد التزموا -رضوان الله عليهم- بهذا الأدب، فلم يتكلَّفوا السُّؤال عمَّا سكت عنه الشَّارع؛ حتَّى لا يؤدِّي السُّؤال عن ذلك إلى إيجاب ما لم يوجبه الشَّرع، أو تحريم ما لم يحرِّمه؛ فيكون السُّؤال قد أفضى إلى التَّضييق على المسلمين، كما قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقرآن تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 101 - 102] .
وحذَّر الرَّسول صلى الله عليه وسلم من مثل ذلك؛ فعن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أعظم المسلمين جُرْماً من سأل عن شيءٍ لم يُحَرَّمْ، فحُرِّمَ من أجل مسألته» [البخاري (7289) ومسلم (2358)].
اغتنام خلوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومراعاة وقت سؤاله
كان الصَّحابة رضي الله عنهم يراعون الوقت المناسب للسُّؤال؛ ومن ذلك اغتنام ساعة خلوته صلى الله عليه وسلم؛ حتَّى لا يكون في السؤال إثقالٌ، أو إرهاقٌ أو نحو ذلك؛ فعن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال: «كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى الفجر؛ انحرفنا إليه، فمنَّا من يسأله عن القرآن، ومنَّا من يسأله عن الفرائض، ومنَّا من يسأله عن الرُّؤيا» [مجمع الزوائد: (1/159)].
مراعاة أحواله صلى الله عليه وسلم وعدم الإلحاح عليه بالسُّؤال
وبخاصَّةٍ، بعد أن نُهُوا عن السُّؤال؛ ولذلك كانوا يدفعون الأعراب لسؤاله صلى الله عليه وسلم، ويتحيَّنون، وينتظرون مجيء العقلاء منهم؛ ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يسمعون.
فعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: نُهِينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ، فكان يُعجِبنا أن يجيء الرَّجلُ من أهل البادية العاقلُ، فيسأله، ونحن نسمع، فجاء رجلٌ من أهل البادية، فقال: يا محمد! أتانا رسولك، فزعم لنا أنَّك تزعم: أنَّ الله أرسلك. قال: «صدق».... الحديث [مسلم (92) وأبو داود (486) والترمذي (619) والنسائي (4/121 -122) وأحمد (3/143 و193)].
وهكذا استمرَّ البناء التَّربويُّ في المجتمع الجديد من خلال المواقف العمليَّة الواضحة، منسجماً مع غرس فريضة التعلُّم، والتَّعليم بين أفراد المجتمع المسلم، فكانت تلك التَّوجيهات تساهم في إعداد الفرد المسلم، والأمَّة المسلمة، والدَّولة المسلمة الَّتي أسَّسها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهذا جزءٌ من كلٍّ، وغَيْضٌ من فَيْضٍ، وتذكيرٌ، وتنبيهٌ لأهميَّة استمرار البناء التَّربويِّ، والعلميِّ في الأمَّة.