في المقال السابق والذي كان عبارة عن مقدمة لسلسلة حول تاريخ الحركة الإسلامية الجزائرية المتميزة في ذاتها ومشروعها فتحدثت بصفة عامة عن أجيال الحركة وعن تياراتها وجماعاتها وفصلت بعض الشيء في المعالم الأولى لظهورها.

 ذكرت في المقال السابق ورقات من تاريخ الحركة الإسلامية (1) أن جمعية العلماء المسلمين أول الحركات الإصلاحية في الجزائر رفعت شعار فصل الدين عن الدولة لتضمن حفظ هوية الجزائريين والوجود المتميز لأمتهم فمررت على المفهوم الذي يعتبره الكثيرين تعريفا للعلمانية كمصطلح دون أن أوضح الغرض من رفع هذا الشعار فهل كان مشروع جمعية العلماء علمانيا؟ هذا ما سأوضحه في بضع أسطر حتى لا يقولني أي أحد ما لم أقل. 

إن أي ظاهرة إصلاحية فكرية كانت أو فقهية غالبا ما تكون خاضعة للزمان والمكان، بحيث أن ظروف نشأة هذه الحركات تبلور مشروعها الفكري بما يتوافق مع تلك الظروف، وهذا ما جعل مشروع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين متمايزا ومختلفا عن باقي الحركات الإصلاحية في تلك المرحلة، وخطاب بن باديس مستنير لا يشبه باقي المشاريع بأدبيات بعيدة كل البعد عن الخطاب التقليدي لرواد الحركات الإصلاحية في المشرق الإسلامي.

سئل البشير الإبراهيمي عن سلفية بن باديس فقال «إن كانت سلفية الحجاز فهو ليس كذلك أما إن كانت سلفية الجزائر فهو كذلك» وهذا ما يجعلنا نتسائل إذا كان محمد بن عبد الوهاب لقب بالمجدد لأنه حارب الطرقية والحركات الصوفية الباطنية، وحسن البنا لقب بالمجدد لأنه نظر لأدبيات العمل السياسي الإسلامي المنظم، لماذا لم يلقب بن باديس بالمجدد وهو الذي جمع بين الحسنيين فحارب الطرقية الضالة الباطنية وأسس لمشروع إصلاحي منظم يحفظ للجزائريين هويتهم المتميزة.

 بن باديس الداعية المصلح والسياسي العلماني

ركز فكر ابن باديس على نقطتين اثنتين مهمتين لانبعاث النهضة الحضارية الإسلامية أولها التحرر من الجهل وثانيها التحرر من الإستعمار، رغم أن بن باديس جعل من الإستعمار مقرونا بالجهل أي أن التحرر من الإستعمار يحتاج أولا التحرر من الجهل فآمن بن باديس بمشروع الدولة القومية التي يكون الإسلام ركيزة من ركائزها، بحيث ركز بن باديس في فكره السياسي على نقد الخلافة كنظام حكم سلطوي فكان يبحر في دراسة التاريخ لا لإستلهام تجربة ذهبية في عصر ذهبي وتخيل أن تلك التجربة يمكن أن تعاش مجددا، بل كما كان ينظر رواد الحركة الإصلاحية في المشرق، بل من أجل قراءة تلك التجارب ودراستها نقديا نقدا شاملا لا انتقائيا. فكان ناقدًا حادًا لمفهوم الخلافة مطلقا مصطلح "الإسلام الوراثي" على التجربة التاريخية للمسلمين أي الموروث تاريخيا دون تمحيص ونظر.

 وهذا ما جعل بن باديس يثني على كمال أتاتورك في مقال نشر في مجلة الشهاب وكان متأثر بشخصيته وبتجربته القومية التحررية حيث قال فيه: «في السابع من رمضان المعظم ختمت أنفاس أعظم رجل عرفته البشرية في تاريخها، وعبقري من أعظم عباقرة الشرق الذين يطلعون على العالم في مختلف الأحقاب فيحولون مجرى التاريخ ويخلقونه خلقا جديدا، ذلك هو مصطفى كمال باعث تركيا من شبه الموت إلى حيث هي اليوم من الغنى والعز والسمو، لقد ثار مصطفى كمال حقيقة ثورة جامحة لكنه لم يثر على الإسلام وإنما على هؤلاء الذين يسمون بالمسلمين، فألغى الخلافة الزائفة واقتلع شجرة الزقوم الطرقية من جذورها… نعم إن مصطفى أتاتورك نزع عن الأتراك الأحكام الشرعية وفي إمكانهم أن يسترجعوها متى شاؤوا وكيفما شاؤوا ولكنه رجع لهم حريتهم واستقلالهم وسيادتهم وعظمتهم بين أمم الأرض وذلك ما لا يسهل استرجاعه لو ضاع.» [1] 

ظل بن باديس ناقد لكل من يطالب بإعادة بعث الخلافة كنظام حكم فأثنى على كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للفقيه الأزهري علي عبد الرزاق الذي انتقده عدة مشايخ أبرزهم رشيد رضا حيث اتهم الكتاب بأنه آخر محاولة يقوم بها أعداء الإسلام لإضعاف هذا الدين، حيث كان بن باديس يرى استحال قيام الخلافة في ظل الإستعمار، وشن هجوم شرسا على دعاة بعثها حيث كان يرى أن النظام السلطوي للخلافة يكون خادما للإستعمار بحيث يسهل على المستعمرين السيطرة السياسية على مختلف الأقطار.

كان بن باديس يطالب السلطات الفرنسية بتطبيق العلمانية كمفهوم بفصل الدين عن الدولة حيث أسس جمعيته كغطاء جمعوي فقط خاضع لقانون 1905 رغم أن للجمعية دور سياسي جد كبير في تلك الفترة، وكان هدفه من المطالبة بتطبيق العلمانية تحقيق ما يلي: 

  • استقلالية المدرسة الأجنبية على بعد فرنسا الكاثوليكي. 
  • وقف عمليات التبشير وتنصير الجزائريين.
  • محاربة الصوفية الطروقية الخاضعة والعميلة للاستعمار وعزلهم عن السياسة حتى لا يكون الإسلام أداة أيديولوجية في يد المحتل.
 أصول الفكر السياسي عند عبد الحميد بن باديس ونظريته في الحكم 

وضع بن باديس 13 أصلا لنظريته في الفكر السياسي مستمدا ذلك من قول أبي بكر الصديق في حادثة السقيفة "إني وليت عليكم ولست بخيركم إن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فقوموني" أضاف لها صبغة حداثية معاصرة علمانية التي تجسدها علمانية أتاتورك وهي: [2] 

  • أن الأمة هي صاخبة الحق والسلطة في الولاية والعزل، فلا يتولى أحد أمرها إلا برضاها [إني وليت عليكم].
  • الكفاءة والمقدرة، قبل الخيرية في السلوك الشخصي والتقوى [ولست بخيركم].
  • تولي الولاية، لا يمنح الحاكم أفضليته على الأمة وإنما الخيرية تنال بالسلوك والأعمال.
  • حق الأمة في مراقبة أولي الأمر، ما دامت هي مصدر سلطتهم.
  • حق الوالي على الأمة فيما تبذله من عون إذ تبتت استقامته [إن رأيتموني على حق فأعينوني].
  • حق الوالي على الأمة في نصحه وإرشاده ودلالته على الحق إذ ضل عنه، وتقويمه على الطريق إذا زاغ في سلوكه [إن رأيتموني على باطل فسددوني].
  • حق الأمة في مناقشة أولي الأمر وفي محاسبتهم على أعمالهم، وحملهم على ما تراه هي لا ما يرونه هم.
  • على من تولى أمر من أمور الأمة أن يبين لها لحظة التي يسير عليها ليكونوا على بصيرة [أطيعوني ما أطعت الله فيكم].
  • لا تحكم الأمة إلا بالقانون الذي رضيته لنفسها وعرفت فيه قائدها.
  • الناس جميعا سواسية أمام القانون وفرق بين قويهم وضعفيهم.
  • صون الحقوق، حقوق الأفراد وحقوق الجماعات.
  • حفظ التوازن بين طبقات الأمة عند صون الحقوق [ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه].
  • شعور الراعي والرعية بالمسؤولية المشتركة.

هذا هو الإسلام الجزائري الذي نشأ في ظل جدلية الوطنية والاستعمار، إسلام مكافح ثوري وهو ما أفصح عنه الشيخ المؤسس بجلاء ووضوح في موقفه المؤيد لكمال أتاتورك وهذه مسألة على غاية من الأهمية وركيزة أساسية أخرى في فهم التوجه الفكري والسياسي للشيخ، حيث كان الشيخ المؤسس الوحيد في العالم الإسلامي الذي أعلن صراحة تأييده لكمال أتاتورك ليس لكونه علمانيا إنما لكونه مؤسس الدولة القومية العصرية التركية وباني تركيا الحديثة العصرية، وهو حلم الشيخ الجليل عبد الحميد بن باديس أن يرى جزائر مستقلة حرة ودولة وطنية عصرية.