قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: 85]، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [ص: 72]، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة: 9]، وقد رَبَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على تزكية أرواحهم، وأرشدهم إلى الطَّريق الَّتي تساعدهم على تحقيق ذلك المطلب، من خلال القرآن الكريم؛ ومن أهمِّها:

  1. التَّدبُّر في كون الله ومخلوقاته، وفي كتاب الله تعالى؛ حتَّى يشعروا بعظمة الخالق، وحكمته سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بَأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54].
  2. التأمُّل في علم الله الشَّامل، وإحاطته الكاملة بكلِّ ما في الكون؛ بل ما في عالم الغيب والشَّهادة؛ لأنَّ ذلك يملأ الرُّوح، والقلب بعظمة الله، ويطهِّر النَّفس من الشكوك، والأمراض. قال الله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ *وَهُوَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 59 - 60].
  3. عبادة الله - عزَّ وجلَّ - وهي من أعظم الوسائل لتربية الرُّوح وأجلِّها قدراً؛ إذ العبادةُ غاية التذلُّلِ لله سبحانه، ولا يستحقُّها إلا الله وحده؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23]، والعبادات الَّتي تسمو بالرُّوح وتطهِّر النفس نوعان:

أ - النَّوع الأوَّل: العبادات المفروضة كالطَّهارة، والصَّلاة، والصِّيام، والزَّكاة، والحجِّ وغيرها.

ب - النوع الثَّاني: العبادات بمعناها الواسع، الَّذي يشمل كلَّ عملٍ يعمله الإنسان، أو يتركه، بل كلّ شعورٍ يُقبِل عليه الإنسان تقرُّباً به إلى الله تعالى، بل يدخل فيها كلُّ شعورٍ يطرده الإنسان من نفسه تقرُّباً به إلى الله تعالى، ما دامت نيَّة المتعبِّد بهذا العمل هي إرضاء الله سبحانه وتعالى، فكلُّ الأمور مع نيَّة التَّقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى عبادةٌ يُثاب صاحبها، وتربِّي روحه تربيةً حسنةً. (تفسير ابن كثير 4/312 ـ 313)

إنَّ تزكية الرُّوح بالصَّلاة، وتلاوة القرآن، وذكر الله تعالى، والتَّسبيح له سبحانه أمرٌ مهمٌّ في الإسلام؛ فإنَّ النَّفس البشريَّة إذا لم تتطهَّر من أدرانها، وتتَّصل بخالقها فلن تقوم بالتَّكاليف الشَّرعية الملقاة عليها، والعبادة والمداومة عليها، تعطي الرُّوح وقوداً وزاداً، ودافعاً قويّاً إلى القيام بما تؤمر به، ويدلُّ على هذا أمر الله الرَّسول صلى الله عليه وسلم في ثالث سورةٍ نزلت عليه بالصَّلاة والذِّكر، وترتيل القرآن.

قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ *قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً *نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً *أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقرآن تَرْتِيلاً *إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً *إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً *إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً *وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ [المزمل: 1 - 8].

إنَّ الاستعداد للأمر الثَّقيل، والتَّكاليف الشَّاقَّة يكون بقيام اللَّيل والمداومة على الذِّكر والتِّلاوة، وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوجيهٍ من ربِّه - عزَّ وجلَّ - على تربية الصَّحابة من أوَّل إسلامهم على تطهير أرواحهم وتزكيتها بالعبادة. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلُّوا؛ ذهبوا في الشِّعاب، واستخْفَوا بصلاتهم (عبد الحليم محمود، 1/472).

وقد حضَّ الله تعالى في القرآن المكِّيِّ على إقامة الصَّلاة، وأثنى على الَّذين يخشعون في صلاتهم، والَّذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجل إحياء ليلهم بذكر الله، وعلى الذين يدعون الله ويسبِّحونه، ويذكرونه، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ [المؤمنون: 1 - 4].

وقال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ *وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ [ق: 39 - 40].

وهذه الآيات وغيرها تدلُّ على أنَّ العُدَّةَ في حال الضيق والشدَّة هي الإكثار من الصَّلاة، والذِّكر، وتلاوة القرآن، والالتجاء إلى الله سبحانه وحده، والإكثار من الدُّعاء. (الصالحي، سبل الهدى والرشاد، 2/404)

إنَّ الصَّلاة تأتي في مقدِّمة العبادات الَّتي لها أثرٌ عظيمٌ في تزكية روح المسلم، ولعلَّ من أبرز آثارها الَّتي أصابت الرَّعيل الأوَّل:

1 - الاستجابة لأمر الله تعالى وإظهار العبودية له سبحانه:

أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين الَّذين استجابوا لأمره، فقال عزَّ وجل: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الشورى: 38] .

وكان الرَّعيل الأوَّل يرى: أنَّ لكل عملٍ من أعمال الصَّلاةِ عبوديةً خاصةً، وتأثيراً في النَّفس، وتزكيةً للرُّوح؛ فقراءة سورة الفاتحة مع التدبُّر تشعرهم بعبوديَّتهم لله تعالى، فعندما يتلو العبد قول الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ يثبت كلَّ كمال لله - سبحانه وتعالى - ويحمده على ما وفَّقه إليه من الطَّاعة، وما أنعم عليه من النِّعم، ويثني عليه بصفاته، وأسمائه الحسنى.

2 - مناجاة العبد لربِّه:

وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً من مشاهد هذه المناجاة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قال الله تعالى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبدُ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ﴾ قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ قال: مجَّدني عبدي، فإذا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». [أحمد (2/241 - 242) ومسلم (395) وأبو داود (821) والترمذي (2953) وابن ماجه (3784)].

لقد تعلَّم الصَّحابة رضي الله عنهم من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ هذه المناجاة، من أعظم أسباب تزكية النَّفس، وتقوية الإيمان، إذا هيَّأ العبد نفسه لها، وأقبل عليها إقبال العبد المتشوِّق للوقوف بين يدي ربِّه، الوافد عليه، المنتظر لرحمته، وفضله؛ يستمدُّ العون منه سبحانه في كلِّ أموره وأعماله.

3 - طمأنينة النَّفس، وراحتها:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمرٌ؛ صلَّى [أبو داود (1319) وأحمد (5/388)]، وقد جُعلت قرَّة عينه في الصَّلاة [أحمد (3/128 و199 و285) والنسائي (7/61) والحاكم (2/160)]، وقد علَّم الرَّسول صلى الله عليه وسلم الصَّحابة كثيراً من السُّنن والنَّوافل ليزدادوا صلةً بربِّهم، وتأمن بها نفوسهم، وتصبح الصَّلاة سلاحاً مهمَّاً لحلِّ همومهم ومشاكلهم.

4 - الصَّلاة حاجزٌ عن المعاصي:

قال الله تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45] .

كان الصَّحابة رضي الله عنهم عندما يؤدُّون صلاتهم، تستريح بها نفوسُهم، وتمدُّهم بقوَّةٍ دافعةٍ لفعل الخيرات، والابتعاد عن المنكرات، وتغرس في نفوسهم مراقبة الله - عزَّ وجلَّ - ورعاية حدوده، والتَّغلُّب على نوازع الهوى، ومجاهدة النَّفس، فكانت لهم سياجاً منيعاً حماهم من الوقوع في المعاصي، كما أيقن الصَّحابة رضي الله عنهم: أنَّ الصَّلاة تكفِّر السَّيئات، وترفع الدَّرجات. قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114].

وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يبيِّن لصحابته الكرام رضوان الله عليهم حاجة القلب إلى غذاءٍ دائمٍ؛ من ذكرٍ، ودعاءٍ، وتلاوة قرآن؛ ليكون ذلك تحصيناً لهم من الأمراض، والآفات، وبيَّن لهم ما يستحبُّ للمسلم من الأدعية، والأذكار في الصَّباح والمساء، وعند دخول المنزل، أو الخروج منه، وعند دخول السُّوق، أو الأكل، أو اللبس، وغير ذلك من الأعمال اليوميَّة؛ حتى يبقى في وقايةٍ دائمةٍ من كلِّ مرضٍ، فإذا أصيب بمرض عارضٍ، كالقلق، والكآبة، والاضطراب العصبيِّ، أو غيرها، كانت تلك الأذكار والدَّعوات البلسم الشَّافي؛ الَّذي تطمئنُّ به القلوب، وتحيا به النُّفوس، ومن بين تلك الأذكار والدَّعوات المأثورة الَّتي علَّمها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، دعاء الشِّدَّة، والكرب؛ الَّذي يقول فيه: «لا إله إلا اللهُ العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا اللهُ ربُّ العرش العظيم، لا إله إلا اللهُ ربُّ السَّموات وربُّ الأرض وربُّ العرش الكريم». [البخاري (6345) ومسلم (2730)]

إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّمَ أصحابه كيف يلجؤون إلى الله سبحانه وقت الضِّيق؛ ليجدوا المأمن، والسَّكينة، فلا يفزعوا، ولا يقلقوا، وهم موقنون بأنَّ الله معهم، وأنَّه ناصرهم، ومتولِّي أمرهم، ومؤيِّدهم، وأنَّه يجيب دعاء المضطرين. (ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ص 190)

قال تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62] .

إنَّ الذِّكر والدُّعاء، وتلاوة القرآن، وقيام اللَّيل، والنَّوافل بأنواعها، لها أثرٌ عظيمٌ في تزكية النفس، وسموِّ الرُّوح، ومهما كتبنا في هذا الموضوع؛ فلا يمكن أن نحيط به في صفحاتٍ أو كتبٍ؛ وإنَّما هذا جزءٌ من كلٍّ وغيضٌ من فيضٍ.