شملت النهضة العلمية في العهد الزنكي مختلف العلوم، فلم يقتصر الاهتمام بالعلوم الشرعية، واللغوية، والأدبية دون غيرها، وإنْ كانت الصيغة العامة لمدارس الزنكيين، والدراسات التي قامت بها هي الاهتمام بدراسة مذهب، أو أكثر من المذاهب السُّنِّية، لكون هذا جزءاً من الأهداف التي أنشئت من أجلها هذه المدارس، وتلك الدور، التي ركَّزت اهتمامها على نشر المذهب السني، ومقاومة المذهب الشيعي؛ الذي كان منتشراً في بعض المناطق في مدة سابقة على حكم الزنكيين للمنطقة، وبخاصة في بلاد الشام، وبعض مناطق الجزيرة إبَّان فترة خضوعها للدولة الفاطمية الشيعية في مصر.

ولكن هذا لا يعني، بكل الأحوال اقتصار التعليم في ذلك العهد على تدريس الفقه، أو غيره من فروع العلوم الشرعية، وما يتصل بها من العلوم اللغوية والأدبية، وإنما كانت هناك مدارس علمية تُدرَّس فيها مختلف التخصصات العلمية إلى جانب ذلك التخصص الموجَّه من الدولة، والذي يتوافق مع مصالح الأمة، وعقيدتها فقد نالت ميادين علمية كثيرة نصيباً من اهتمامات الدارسين والباحثين، وقُدِّمت فيها دراسات علمية رائدة، وصنِّفت فيها كتب مهمة، اعتمد عليها كثير ممن جاء بعدهم، حيث ظهرت دراسات متخصصة في العلوم التاريخية، والجغرافية، وعلوم الرياضيات، والفلك، إضافة إلى تدريس الطب في كثير من البيمارستانات المنتشرة في المدن الزنكية، وظهر من بين المشتغلين بهذه التخصصات علماءُ كان لهم أثر كبير في إثراء المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات المتخصصة؛ التي ظلت رافداً للعلوم الإسلامية، وحتى الوقت الحاضر، واتِّساع أفق التفكير الإسلامي في هذا الصدد، وتنوُّع الدراسات والبحوث التي قدمت فيه نتيجةٌ واضحة للنشاط العلمي الذي شهدته المدن الزنكية خلال ذلك العهد، وإليك أهم تلك العلوم:

العلوم الشرعيَّة:

كانت الغَلَبة في ميادين العلوم في العهد الزنكي للعلوم الشرعيّة من قراءاتٍ، وتفسيرٍ، وحديث، وفقهٍ، وأصوله، ثم علوم اللغة العربية، وآدابها، وهذا الأمر يتَّفق مع ترتيب العلماء للعلوم حسب أهميتها، فقد رتَّبوها إلى علوم شرعية وعلوم أخرى تخدمها وتوضحها، وفي هذا المجال ذهب الإمام الماوردي المتوفى 405هـ/1058م إلى أن أفضل العلوم هي علوم الدين؛ إذ قال: «إنه إن لم يكن إلى معرفة جميع العلوم سبيلٌ؛ وَجَبَ صرف الاهتمام إلى معرفة أهمها، والعناية بأولها، وأفضلها، وأُولى العلوم وأفضلها علم الدين؛ لأن الناس بمعرفته يرشدون، وبجهله يضلون؛ إذ لا يصلح أداء عبادةٍ جهل فاعلها صفات أدائها، ولم يعلم شروط أجزائها [الماوردي، أدب الدين والدنيا، ص44]. وهذا رأي ابن جماعة أيضاً عندما قال: (إذا تعددت الدروس؛ قُدِّم الأشرف، فالأشرف، والأهمُّ، فالأهم، فيقدم تفسير القرآن، ثم الحديث، ثم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم المذاهب، ثم الخلاف، أو النحو أو الجدل) [تذكرة السامع والمتكلم، ابن جماعة، ص35]. 

    علوم الرياضيات والفلك:

اهتمَّ المسلمون في ذلك العهد بشتى فنون العلوم المختلفة، ومن ذلك علوم الرياضيات، والفلك، حيث نالت تلك التخصصات قدراً كبيراً من اهتماماتهم، فبرعوا في علم الحساب، وصنَّفوا فيه المصنَّفات، وبحثوا فيها الأعداد، وأنواعها، وخواصها، وتوصَّلوا إلى إضافات، ونتائج أثارت إعجاب علماء الغرب، ودهشتهم، فاعترفوا بفضلهم، وأسبقيتهم في هذا المجال، وترجموا كثيراً من كتب المسلمين، مما كان له أثر كبير في تقدم هذا العلم. 

كما اشتغل عدد من العلماء بعلم الجبر، وأتوا فيه بالعجب العجاب؛ حتى إن (كاجوري) قال: (إن العقل ليدهش عندما يرى ما عمله العرب في الجبر)[تراث العرب العلمي، في الرياضيات، 61]. وقد نبغ في العهد الزنكي عدد من علماء الرياضيات، والفلك مما كان لدراساتهم ومصنفاتهم أثر واضح في إثراء الدراسات الرياضية والفلكية. 

ـ الرياضيات:

كانت العلوم الرياضية: من حسابٍ، وجبرٍ، وهندسةٍ من العلوم التي كانت تدرَّس في بعض المدارس الزنكية، كما أنَّ هناك تنقلات، ورحلات بين المناطق الزنكية لتحصيل هذه العلوم من العلماء البارعين في هذا المجال، ومما ساعد على تشجيع هذا الفرع من العلوم حاجة الفقهاء الماسة إلى علمي الحساب، والجبر في تقسيم المواريث، أو ما يسمى بعلم الفرائض، وكذلك الحاجة إلى هذه العلوم في معرفة المواقيت، واتجاه البلدان لإقامة الصلاة، كما ظهرت الحاجة إليها في حسابات الدواوين، وفي بعض الأمور الإدارية الأخرى.

ـ الفلك:

يُعرف قديماً بعلم الهيئة، وموضوع الأجرام السماوية من النجوم، والكواكب، وأحوالها، وأبعادها، وحركاتها، وحساب الأيام والشهور والسنين والفصول، على أساس تلك الحركات، وتحويل السنين من القمرية إلى الشمسية وبالعكس، وأطوال البلاد، وعروضها، والرياح والأمطار، وكسوف الشمس، وخسوف القمر، وما إلى ذلك من مباحث كثيرة منها نظرية، وأخرى عملية، وبعض هذه المباحث تدخل الآن في علم الفضاء.

وكانت أبرز الجهود التي بذلت في العهد الزنكي، وقد تركَّزت في الموصل، وكان الشيخ كمال الدين موسى بن يونس بن منعة في مقدمة العلماء الذين نشطوا في هذا الميدان، فقد قام بتدريس أصول هذا العلم لطلابه في المدارس التي درَّس بها، وصنَّف في هذا العلم، ووردت إليه ـ أيضاً ـ مسائل في مشكلات هذا العلم، قام بتفسيرها، وحلَّ رموزها، ونبَّه على براهينها، بعضها من بغداد، وأخرى وردت إليه من بعض ملوك أوروبا، ومما ينسب إلى كمال الدين في هذا العلم: أنه قد عرف أشياء كثيرة في قوانين تذبذب الرَّقاص، ويذكر طوقان: أن كمال الدين قد سبق العالم الإيطالي غاليليو المتوفى سنة 1052هـ/1624؛ في هذا المجال. وقد كانت الموصل مركزاً له أهمية خاصة في علوم الرياضيات، والفلك في العهد الزنكي.

علوم الطب والصيدلة:

ـ الطبُّ: علم الطب؛ يُبحَثُ فيه عن بدن الإنسان من جهة، وإزالة المرض من جهة أخرى، وفائدته بيِّنة لا تخفى، وكفى بهذا العلم شرفاً وفخراً قول الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: (العلم عِلمان: علم الطبِّ للأبدان، وعلم الفقه للأديان).

وقد تقدم وارتفع شأن الطبِّ في العهد الزنكي، وتقدمت وسائل دراسته، ولعل من انتشار البيمارستانات في المدن الزنكية، واهتمام الحكَّام والأمراء بإنشائهما، ووقف الكتب الطبية في ذلك العهد، والتي كانت من نتائجها بروز عدد كبير من الأطباء؛ الذين أثروا المكتبة الإسلامية بالكثير من المؤلفات الطبية، والتي كان لها مع ما سبقها من دراسات أثر كبير في إثراء الدراسات الطبية في العصور التي تلتها، استمراراً حتى العصر الحاضر.

وممَّن برز في هذا الميدان: ـ الطبيب أفضل الدولة أبو المجد محمد بن أبي الحكم، المتوفى سنة 570هـ/1174م، [الحياة العلمية في العهد الزنكي، ص343]، الذي اشتهر بالتدريس بالبيمارستان النوري بدمشق، زمن الملك العادل نور الدين محمود، وكان نور الدين قد أوكل إليه مهمة التطبيب في ذلك البيمارستان بعد إنشائه، وقد وصف لنا ابن أبي أصيبعة كيف كان ابن أبي الحكم يتفقد المرضى بنفسه، وطريقته في تدريس الطب في ذلك البيمارستان، ومناقشاته مع طلابه، ولكنه لم ينسب إليه أي كتاب ألَّفه في الطب.

لقد ركَّزت السلطة القائمة في العهد الزنكي على إحياء العلوم الشرعية، والعناية بها بالدرجة الأولى لأسباب كثيرة، من أبرزها الحرص على الدفاع عن العقيدة الإسلامية أمام الحركات الفكريَّة والسرِّية ـ الهامَّة ـ والتي كانت تستهدف تشكيك المسلمين في العقيدة الإسلامية توطئة للسيطرة عليهم، وعلى رأس هؤلاء فرقة الباطنية؛ لذا تقلَّصت الدراسات الفلسفية، ودراسة المنطق، التي تخدم الفكر الشيعي الباطني، وتحقِّق لعلماء الشريعة فرصة الوصول إلى مراكز التوجيه الفكري والثقافي في هذا العهد، كما صَاحَبَ هذا النشاط في ميدان العلوم الشرعية نشاط آخر في ميدان الدراسات اللغوية والأدبية، والتاريخية والجغرافيا، كما قُدِّمت دراسات علمية راقية في ميدان الرياضيات بفروعها المختلفة، وفي علم الفلك والميقات إضافة إلى الاهتمام بالدراسات الطبية والصيدلة، والتي كان مجالهما داخل البيمارستانات المنتشرة في المدن الزنكية، وبرز من بين العلماء المشتغلين بتلك العلوم علماء، كان لهم أثر كبير في إثراء المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات المتخصِّصة، والتي ظلَّت مرجعاً للبحوث العلمية؛ حتى الوقت الحاضر [الحياة العلمية، ص346].