تمر الحركة الإسلامية اليوم بأضعف حالاتها، لتضافر العوامل الموضوعية والخارجية في هذا الوضع المأساوي. فالتيار السلفي قد نال حظا من الظلم والحيف، وحاول أن يخرج من هذا الظلم والواقع الأليم، فتخبط في كثير من مواقفه، وجر بعض الكوارث على الأمة، مما جعل البعض ومن ذوي التفكير الإسلامي، يقفون ضد الأطروحات الجهادية أو المغالية في تصور البساطة في الواقع السياسي المؤلم!
وليس الإخوان المسلمون بأقل حظا مما نالهم، فقد شردوا، وطوردوا، وعذبوا وذبحوا، بل وجروا التيار السلفي المتزن معهم، مما شكل نكبة عامة على التيار الإسلامي كله.
هذا الوضع المتجدد، لم يجد من يشِرحه، ويحدد ملامحه، ويعدد الأسباب التي اقتضت وقوع التيار الإسلامي برمته في هذا الوضع المأساوي.
يحدثنا القرآن الكريم، عن قضية عقدية هي قانون وناموس كوني إلهي، لا يمكن أن يتخلف، وهو قول الله تعالى: في سورة الشورى "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ "، قال الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره: وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) يقول: فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما اجترمتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم، فلا يعاقبكم بها، فهذا قانون رباني لا بد من التأمل فيه كثيرا، ولم أر كثيرا من الدعاة يتأملونها ويتلفتون إليه، بل دائما الاتجاه صوب المحنة والابتلاء دون رعاية لبقية الآيات والسنن الكونية والقرآنية.
ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى:
(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آل عمران (165))، قال الطبري، (عني تعالى ذكره بذلك: أوَحين أصابتكم، أيها المؤمنون، = "مصيبة"، وهي القتلى الذين قتلوا منهم يوم أحد، والجرحى الذين جرحوا منهم بأحد، وكان المشركون قتلوا منهم يومئذ سبعين نفرًا = "قد أصبتم مثليها"، يقول: قد أصبتم، أنتم أيها المؤمنون، من المشركين مثلي هذه المصيبة التي أصابوا هم منكم، وهي المصيبة التي أصابها المسلمون من المشركين ببدر، وذلك أنهم قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين = "قلتم أنى هذا"، يعني: قلتم لما أصابتكم مصيبتكم بأحد = "أنى هذا"، من أيِّ وجه هذا؟! ومن أين أصابنا هذا الذي أصابنا، ونحن مسلمون وهم مشركون، وفينا نبي الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء، وعدوُّنا أهل كفر بالله وشرك؟ = "قل يا محمد للمؤمنين بك من أصحابك ="هو من عند أنفسكم"، يقول: قل لهم:
أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم، بخلافكم أمري وترككم طاعتي، لا من عند غيركم، ولا من قبل أحد سواكم
فهذه مسألة ينبغي مراعاتها، حتى لا تظل الحركة الإسلامية سادرة، ونازعة إلى ما لا تحمد عقباه.
هذه مسألة أولى في فقه التأخير والتأخر، والمسألة الثانية تكمن في فقه الواقع، وهي من المسائل التي كثيرا ما يعجز عنها التيار الإسلامي، وهذه جعلها الفقهاء من أهم المهام للقاضي أو الفقهي، فلا يجوز أن يفتي إلا بعد معرفة الواقع الذي تكون فيه الفتيا.
هذا على مستوى فرد من الأمة، فما بالك بحركة إسلامية تحمل منهج الحق والصلاح، تريد تغيير الواقع وهي لا تعرفه ولا تعرف المحيط حوله، ولا تفهم واقع النظام العالمي، فضلا عن قدراتها وإمكاناتها! بل وتفهم السياسة الشرعية المنطلقة من النصوص الشرعية والمصالح والمفاسد ومقاصد الدين والشرع!
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم، تبيان لشيء نحتاج إلى فهمه وإدراكه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ، قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَهْنَ ؟ قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَة المَوْت))، في هذا الحديث أمور عديدة تفيد الحركة الإسلامية إن أرادت أن تأخذ على الأقل بزمام الفهم، ونية العمل وفق الفقه الصحيح للواقع والنص:
- ليست المسألة في الكثرة ولا العدد، ولا العدة، وإنما تكمن المسألة في فقه الواقع، وفي العلم بتاريخ الأمة وتطورها وانحدارها، فالمسلمون كما اليوم كثيرون جدا، ولديهم إمكانيات هائلة جدا وضخمة وعالمية وكبيرة، ولكن الوهن والخوف والتردد، عوامل دفعت الأمة للسلبية والانكفاء والدوران في مدارات القوي والأقوى، دون استخدام أي ورقة حتى في التفاوض، أو حتى في قضية الوجود والتقدير والاحترام فضلا عن التمكين.
- الغثائية الإسلامية الواضحة التي تعني الكثرة الفاشلة العاجزة، وهي تملك كل الطاقات والإمكانات، وفوق هذا لا تحرك ساكنا ولا تستفيد من تجارب الغير، ولا من وجوده، وفهمه وتوظيف ذلك في التحرك في سلم الحضارة.
- السيل الجارف، ولكنهم أصبحوا الزبد والغثاء الذي فوق السيل، مع أنهم هم السيل الذي إن تحرك سيجرف كل شيء أمامه! إذن ما الخطب!؟
- الوهن والضعف والالتفات إلى الدنيا، وحبها والركون إليها، كما نرى الأمة اليوم غارقة في الماديات والاستهلاكات حتى دون التفكير في الصناعة ولا الفكر ولا النهوض! وهذا لا شك من فعل الله تعالى، أنه قذف الخوف والذعر، نتيجة حتمية لتخلفنا عن فقه الدين والمضي في حركته، فضلا عن دفعه ليكون حركة فاعلة في حياة الناس.
إن المعنى الذي أريد أن أذهب إليه في ذلك كله أن تراجع الحركة الإسلامية مناهجها وطاقاتها، وتتلاحم مع الشعوب المسلمة، وتكون فاعلة في حياة الناس ترتبط بهم ارتباطا عضويا دينيا اجتماعيا، ليكون الدين حركة فاعلة نحو الغد، ولا ينزوي أبدا في المساجد.