أصل الأصول في إثبات وجود الله تعالى عزّ وجلّ، هي الفطرة، والتي تعني قوى واندفاعات مودعة في نفس الإنسان، تظهر أثارها أثناء نموه وتفاعله مع بيئته، بدءا من التقامه ثدي أمه ليرضع، ثم انجذابه للحقائق والأخلاق السليمة، حيث قال الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: 4)، وأحسن تقويم هنا يشمل المكونات الفطرية اللازمة لتحقيق الغاية من خلق الإنسان، وهي تفهم كذلك من قول الله تعالى: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) (طه: 50)، فالله تعالى أحسن تقويم الإنسان، وهداه بالفطرة إلى الإقرار بأن له ولهذا الكون خالقا مدبرا، والشعور بالحاجة إلى هذا الخالق (الله تعالى) واللجوء إليه في كل الأحوال وخاصة عند الشدائد والمصائب.

كما وهدى الله تعالى الإنسان بالفطرة لتكون لديه المسلمات العقلية، والتي بها يفهم خطاب هذا الخالق وتكليفه إياه، وهداه إلى السؤال عن الغاية من وجوده، ومصيره بعد موته، وذلك بما يكوّن لديه القوة الدافعة للبحث عن أمر خالقه، وهداه أيضا إلى النزعة الأخلاقية من محبة فطرية للخير والعدل والصلاح، وكراهية للشر والظلم والفساد، وذلك بما ينسجم مع أوامر الخالق الشرعية، فيميل إليها الإنسان ويحبها بطبعه وفطرته، وهدى الله تعالى الإنسان أيضا للشعور بالإرادة الحرة، بما يجعله مختارا لأفعاله في طاعة الخالق أو معصيته، حيث قال الله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 10)، إضافة أنه هداه إلى الغرائز اللازمة لمعيشته بشكل سوي، ما دام في فترة الاختبار على هذه الأرض؛ كغريزة الأمومة، وغريزة حب البقاء وغيرها الكثير، وهذه حزم فطرية، تتعاون بشكل عجيب لتنتج إنسانا سويا يعمل لغاية محددة.

هذا وقد يحجب الفطرة ما يحجبها أثناء مسير البشر، بحيث قد يغالبها الإنسان، ويصم أذنيه عن ندائها، بل ويكبتها ويطمسها؛ فلا يعود يسمع هذا النداء العميق، لكن هذا كله لا يلغي حقيقة أنها موجودة أصالة وابتداء فيه قبل هذه المغالبة، وتبقى تهجم عليه الفينة بعد الفينة، وتنجذب لما ينبش عنها وينفض الركام المتجمع عليها.

 فالإنسان قد يشعر بحب التسلط، والذكر قد يشعر بالرغبة في الاعتداء الجنسي على الأنثى، وهذه نزعات سيئة، وهذا ما يسمى ميل النفس لطبائع الهوى والشهوات، والمكون الفطري هنا وهو النزعة الأخلاقية الدينية، يتضمن الاعتراف بفساد هذا الميل للشهوات الرديئة، كما وأن الإنسان يعلم أن ميوله هذه باطلة بتأثير الفطرة التي نتكلم عنها.

لهذا فإن الفطرة تشكل مأزقا كبيرا للملحدين؛ فالفطرة تشكل بالنسبة لهم تدخلا خارجيا من قوة مريدة، عليمة، متعالية عن التفاعلات البيوكيميائية العشوائية المجردة، والطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي، وقد أقرّ بعض الملحدين بهذا المأزق، ومنهم الفيلسوف البريطاني الملحد، (توماس نيجل - Thomas Nagel)، في كتابه المعروف بعنوان: (Mind and Cosmos: Why the Materialist Neo-Darwinian Conception Of Nature is ?(Almost Certainly False – (العقل والكون: لماذا التصور النيو-دارويني للطبيعة يكاد يكون خطأ قطعا؟)، والكتاب يستعرض ثلاث قضايا أساسية، موضحا عجز المادية الداروينية عن تقديم حل لها وهي: (الوعي، والإدراك والقيم)، إلا أنه ومع ذلك بقي الكاتب ملحدا! أما عامة الملحدين، فترددوا بين إنكار فطرية هذه المكونات؛ أي أن منهم من أنكر وجود هذه المكونات في الإنسان ابتداء مع ولادته، واعتبرها من تأثيرات التربية والبيئة الطبيعية والاجتماعية، ومنهم من أقرّ بوجودها، لكن حاول إيجاد تفسيرات مادية لها، والطرفان وقعا في أعاجيب التخبط والتناقض واللامعقول، وهكذا فإن هذه المكونات الفطرية، والتي تشكل مأزقا كبيرا للملحد، فإما يتهرب منها بإنكار وجودها أو بتفسيرها تفسيرا ماديا. 

أحد أهم المكونات الفطرية لدى الإنسان هي نزعة التدين، ونقصد بالتدين هنا إدراك الإنسان أن له ولهذا الكون خالقا مدبرا، والرغبة في عبادة هذا الخالق والتقرب منه، والشعور بالحاجة إليه وكذلك اللجوء إليه عند الشدائد.

 والمنظور الإسلامي يذكر وجود هذه النزعة كحقيقة مسلمة، وذلك في آيات كثيرة، حيث يقول الله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (يونس:12)، فالفطرة مزروعة في كل إنسان، وقولنا بفطرية التدين يعني أنه مكون صميمي راسخ في النفس البشرية، وجزء أصيل من تكوينها، توجد جذوره منذ ولادة الإنسان، وبغض النظر عن المؤثرات الخارجية، وقد أنكر الملحد فطرية التدين قائلا: بأن إيمان الناس بوجود خالق أمر مكتسب بتأثير التربية، وبتناقل الأجيال لهذه الدعوة، ولو ترك الإنسان ونفسه، فليس هناك ما يدعوه للإيمان بوجود خالق، كما ويضيف قائلا: بأن هناك معتقدات كثيرة، يؤمن بها أصحابها، وذلك مع أنها مجرد خرافات، كبابا نويل والتنين الذي ينفث النار وغيرها.

أما نحن فنقول: حتى لو تجاوزنا حقيقة أن المعتقدات الخرافية لا دليل عليها، إلا أن وجود الخالق يدل كل شيء عليه، كما إن هناك فرق كبير وشاسع من الناحية الشعورية، بين معتقدات خرافية يغذى بها الأطفال، ويكتشفون عندما ينضجون زيفها، وأنها لا تمتلك أي أساس ولا برهان، ويضحكون من أنفسهم أن أمنوا بها يوما ما، كالتنين وبابا نويل، أو خرافات يعتقدها قوم في بيئة جغرافية محددة، توارثوها عبر الأجيال، وبين نزعة التدين، والتي هي ذلك الشعور العميق الذي يجده الناس من أنفسهم، وذلك حتى الذي ينكره يغالب نفسه مغالبة لإنكاره، ويبقى سؤاله يهجم عليه ويفرض نفسه عليه مرة بعد مرة، حتى يضطر إلى البحث عن تفسيرات مادية لوجوده.

فأصالة التدين في النفس البشرية أمر تؤكده حتى دراسات الأنثروبولوجي (علم الإنسان)، والسوسيولوجي (علم الاجتماع)، كما وبات من المألوف في العديد من الدراسات العلمية التعبير عن فطرية التدين، وبأن الدين أشبه ما يكون بمكون صميمي في الإنسان مختلط بلحمه ودمه كالشرايين والأعصاب، وهي حقيقة ضاربة في عمق التاريخ، حتى قال المؤرخ الإغريقي (بلوتارك – (Plutarch: (إذا سافرت عبر العالم، فمن الممكن أن تجد مدنا بلا أسوار، بلا آداب، بلا ملوك، بلا ثروة، بلا مسارح، ولكن لم يكن هناك يوما، ولا يمكن أن يكون في يوم من الأيام، مدينة بلا معبد يمارس فيه الإنسان العبادة).

الإنسان يجد هذا الشعور العميق من نفسه، إذا وقع في الشدائد، وتحرك في نفسه معنى، لا يستطيع دفعه، وذلك بأنه ثمة قوة عليا بمقدورها إنقاذه، ووجد من حاله طلبا والتجاء لربه أن يخلصه من هذا المأزق، لذلك فمن أمثلة الغرب: (There are no atheists in foxholes - لا يوجد ملحدون في الخنادق - خنادق الحرب)، هذا وقد تجد الملحدين يكثرون من التبجح بأنهم ليسوا بحاجة إلى الله تعالى، بل وكثيرا ما يشتمون الله، مع أن الأصل أنهم لا يؤمنون بوجوده، فكيف يشتمون شيئا غير موجود؟! لكن ترديدهم المرضي لمثل هذه العبارات بمناسبة أو بدون مناسبة، يدل على نفسيات متصارعة، تغالب صوتا عميقا فيها وتحاول كبته، وإلا لما احتاجوا إلى هذه الضوضاء، خاصة وأن الملحد لا ينتظر جزاء أخرويا على الاستعلاء بمعتقده، ولا لديه دوافع أخلاقية مطلقة تدفعه إلى استنقاذ الناس من ضلال الإيمان بالله حسب معتقده.

هذا ولفراغ بدأ يعصف بكثير من الملاحدة، وذلك بعد أن أنكروا هذا المكون الفطري الذي يفرض نفسه عليهم، بدأوا بتأسيس لون من التجمعات الإلحادية على نحو طقوسي مشابه إلى حد بعيد بالتجمعات الدينية، فأصبح هناك ما يعرف بكنائس الملاحدة (كنائس الملحدين - (atheist churche، والتي بدأت بالانتشار في دول متعددة، كأمريكا وكندا وبريطانيا، وذلك في تعبير واع أو غير واع عن مكنون فطري، يبحث عن شكل من أشكال التنفيس، فنحن هنا لا نتكلم عن التنين ولا عن بابا نويل، بل عن شعور عميق يجده عامة الناس من أنفسهم عبر القرون ويهجم سؤاله على منكره، ويفرض نفسه عليه مرة بعد مرة، ويبحث عن متنفس له، وهو معتقد تتكامل الحزمة الفطرية لخدمته والتوجيه إليه، وليس عن معتقدات خرافية، لا علاقة لها بهذه الحزمة ولا تكاملها ولا توجيهها.

هذا وقد أقرّ كثير من الملحدين بأن نزعة التدين والتصديق بوجود الله تعالى، تتجاوز التأثير الخارجي والبيئي، وأنه مكون مركزي في الإنسان، لكن ماذا فعلوا؟ هل امنوا؟ لا، فالإلحاد لا يبحث عن الحقيقة، بل إذا بان بطلان ما كان يعتقده، بحث عن أي متعلق آخر، غير الإيمان بالله تعالى طبعا، حيث قالوا أن نزعة الإيمان بالخالق ليست بالضرورة أن تكون مطابقة للحقيقة، بل قد تكون مجرد توهم أنتجته العشوائية، وقد تكون صفة انتخبتها الطبيعة لتساعد الإنسان على البقاء.

 وبحثوا عن سبب مادي لنزعة التدين، وبدأت بالفعل تتشكل مجالات معرفية خاصة لدراسة هذه الظاهرة، فقد تفرع عن علم الأعصاب الـ (Neuroscience)، ما بات يعرف بـ (neurotheology)، أي علم اللاهوت العصبي، وهو مجال بحثي يسعى للكشف عن طبيعة الصلة بين الجهاز العصبي وظاهرة التدين، بل بلغ الأمر إلى التفتيش عن جين مسؤول عن نزعة التدين هذه، فقد نشر عالم الجينات الأمريكي، (دين هامر -Dean Hamer )، كتابا سنة 2005 بعنوان: (The God Gene: How Faith Is Hardwired into Our Genes) - (الجين الإلهي: كيف ضمن الإيمان في جيناتنا)، كما وسوف تجد مؤلفات في البحث عن الجزء من الدماغ المسؤول عن الإيمان بوجود خالق، ككتاب (ماثيو ألبر – (Matthew Alper : The "God" Part of the Brain)) - (الجزء المتعلق بوجود خالق في الدماغ).

وهكذا نلاحظ هنا أن هؤلاء الملحدين لم يبحثوا عن تفسيرات مادية لقناعة بعض الناس بوجود التنين أو جنية الأسنان وغيرها، بل إنهم يبحثون فقط عن تفسير مادي للتدين، وعلى فرض أنهم وجدوا تفسيرا ماديا لنزعة التدين، عليهم أن يجدوا تفسيرات مادية للمكونات الفطرية الأخرى، وقد تم إثبات كيفية بطلان محاولة تقديم تفسير مادي جيني لكل شيء وتحوله إلى سخافة مبتذلة، ومع ذلك فلنفترض جدلا أنهم وجدو جينات لنزعة التدين، وأخرى للضرورات العقلية، ومجموعة ثالثة للأخلاق، ورابعة للغرائز، وخامسة للشعور بالغائية، ومجموعة سادسة من الجينات للإرادة الحرة، وهو ما سوف يبدو متناقضا طبعا، وذلك كأننا نقول: (جينات تجبرك على أن تكون حرا).

ولكن لنفترض جدلا أنهم وجدو هذا كله، فما هذه الحزمة المتناسقة الموجهة التي تجعل الناس مؤمنين بوجود خالق، محبين لعبادته، ملتجئين إليه، مالكين لضرورات عقلية يفهمون بها مراده، ونزعة أخلاقية منسجمة مع أوامره، وشعور بالغائية يدفعهم للبحث عن مراده والالتزام به، وإرادة حرة يختارون بها طاعته أو معصيته، وغرائز تضمن استمرار جنسهم في هذه الأرض خلال فترة عيشهم عليها، هذا كله دليل على أن حتى عشوائياتهم هذه تعبد الله تعالى!؟ وحتى إن وجدوا هذه الحزمة، فما هو إلا دليل آخر على عظم هذا الخالق، الذي أودعها في البشر، وكامل بينها وجعلها منسجمة مع أوامره الشرعية.