كان الطريق طويلًا يا صاحبي، والزاد قليل، ورغم صعوبة المَسير والارتحال؛ كان أملُ الوصول سببًا كافيًا للاستمرار، إلا أنني أتعثر.. كثيرًا ما أتعثر، فأنقلب على وجهي خاسرًا، وأغفل عن وجهَتي تائهًا، وأركَنُ إلى موطنٍ بحثًا عن مُستقر، وأنسى أنني كنتُ عابر، ويتراءى لي أنني صرت من أهل هذه الدار وأنا في الأصل غريبٌ مُرتحل!

هل تجلسُ أُحَدِثُـكَ عن هَمِي؟ إنني أشقَى بالبحث عن دارٍ رحيبةٍ مُريحة، ولكنني لا أجد مَطلبي، لقد سِرت حتى أُدمِيَتْ قدماي، وبَكيتُ حتى جَفت مُقلتاي، وتألمتُ حتى فاض الألم.. يتكرر صوتٌ في أذني دائمًا، يقول "عِش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، آه.. وما عابر السبيلِ يا رسول الله؟

كيف السبيل إلى العبور مع كل هذه الأحمال؟.. 

لا تعجَب من غريبٍ يروى لكَ همَّه، لقد شقيتُ من المسير وحيدًا لمسافاتٍ طويلة، وريثما ينتهي كوب الشاي هذا سأغادِركَ وأعود للمسير مجددًا.. 

لا أخفيكَ سِرًا لقد كنتُ دائمًا في المعركة الخطأ، كان يمكن أن تنقضي الأمور بشكل أبسط وروحٍ أهدأ، لو أنني عرفتُ حقيقتي وحقيقة الدنيا..

لا يشتري نزيلُ الفندق ساعة حائط باهظة الثمن لكي يعلقها على حائطٍ ليس له، ولا يحمل المسافر وزنًا أثقل من طاقته لكي يستطيع التنقل، ولا يَشتبكُ عابر السبيلِ مع أهل المدينة التي حلَّ ضيفًا عليها لكي يمضي بسلامٍ إلى وجهته.. إنَّه حال العابرين الذي يختلف عن حال المستقرين..

يأسرني حديثُ أبي الدرداء، عندما نزَلَ عَليه جماعَةٌ في ليلةٍ بَاردَة للمبيت، فأرسَلَ إِلَيهِم طعامًا ساخنًا وَلَم يَبعث إِلَيهِم لُحفَاً وأغطية، فَلَمَّا أَرَادوا النومَ ذهب إليه أحدهم وسأله عن متاعٍ وأغطية..

فقالَ أَبو الدرداء: إنَّ لنا دَارًا هُنَاك نُرسل إليها كل مَا نَحصلُ عَلَيهِ مِن مَتَاعٍ، وَلَوْ كُنا استَبقَينَا في هذه الدارِ شيئًا لَبعثنَا بِهِ إليكم، ثم إنَّ في طرِيقِنَا الذي نَسلكُه إلى تِلكَ الدارِ عَقَبَةٌ كَؤود، المُخِفُ فيها خَيرٌ مِن المُثقِلِ، فأرَدنَا أَن نُخَفِفَ مِن أَثقَالِنَا لَعَلنَا نَجتَاز.

وإنَّ الثِقَل هو أكثر ما يُضيرني، إنني أحمل أثقالًا.. وأثقالًا مع أثقالي يا أبا الدرداء، وأفرح بما حصدتُ وأنا فقير مُستأجِر، وأرنو إلى الاستقرار وأنا غريبٌ مُرتحل، وأطمح للخلود وأنا عابر سبيل، إلا أن أثقالي لن تجعلني أجتاز، وكيف السبيلُ إلى الديار مع كلِ هذه الحمولة!

أن تكون عابر سبيل يعني أن تكون خفيفَ الحضور قليل الحمولة، سريع الخُطى زهيد الكلام، كثيرَ السير قليلَ المنام..

أن تكون عابر سبيل يعني ألا تشعر بالملكيَّة وإن سكنتَ قصرًا، وأن تشعر بالغُربة وإن وطئت وطنًا.. يعني ألا يَهمك في أي أرضٍ بتَّ وفي أي بلدٍ أصبحت، يعني ألا تستهويكَ الأحاديث العابرة والشكوى الدائمة، يعني أن يكون همُّك هو العبور سالمًا نحو دار المُستقَر..

أن تكون عابر سبيل يعني أن تشعر بالفقر إلى الله، شعور مُحتاجٍ لا شعور مَالك، يعني أن تتوق للوصول دائمًا، تتوق للوصلِ أبدًا..

أن تكون عابر سبيل يعني تتخفف كلما استطعت لكي يكون العبور ناجعًا، يعني أن تكون سهل المعشر حسنَ النية متسامح القلب؛ لكي لا تكون ضيفًا ثقيلًا.. 

أن تكون عابر سبيل يعني ألا تخاف مما يخافه المستقرون، وتجنح إلى الزاد الذي يستزيد منه العابرون، يعني أن تشعر بضآلة ما أنت فيه وعِظم ما أنت ذاهبٌ إليه..

أن تكون عابر سبيل يعني أن تكون أقوى من الدنيا، لا تَهزك الذكريات ولا يهزمك الألم. 

أن تكون عابر سبيل يعني أن تكون بجسدك هنا وبقلبك هناك، أن تكون غريبًا عن الأرض قريبًا إلى السماء..

اهدأ يا صاحبي.. لا يصيبكَ المَلل، سأرتحل الآن إلى وجهتي، لكن أقول لك؛ حتى لو لم تكن غريبًا عِش كأنكَ غريب، وإن كنتَ مُقيمًا أخبِر نفسكَ أنكَ عابر سبيل، فذلك أقربُ للحقيقةِ وأقوَمُ للعملِ وأدني ألا تَغتَر.

أود اخباركَ أيضًا أنني صرفتُ ناظريَّ عن تلك الدار المُريحة التي حدثتكَ عنها، لقد رضيتُ بغربتي واستأنستُ لها، ورغم أنني أنسى حقيقتي كل حينٍ، إلا أن ذلك لا ينفي الحقيقية، حقيقةَ أن المُخِف ليس كـ المُثقِل، والغريب ليس كـ المقيم، والعابر ليس كـ المُستَقِر، وأن الدنيا ليست دارنا. 

"يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ".