قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة الحج: 65].
وهنا "ألم تر" أي: ألم تشاهد ببصرك وقلبك نعمة ربك السابغة وأياديه الواسعة؟ ﴿أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾ من حيوانات ونباتات وجمادات، فجميع ما في الأرض مسخّر لبني آدم؛ حيواناتها لركوبه وحمله وأعماله وأكله وأنواع انتفاعه، وأشجارها وثمارها يقتاتها، وقد سُلِّط على غرسها واستغلالها، ومعادنها يستخرجها وينتفع بها. "والفلك" أي: سخر الفلك، وهي السفن، "تجري في البحر بأمره": تحملكم وتحمل تجارتكم، وتوصلكم من محل إلى آخر، وتستخرجون من البحر حلية تلبسونها، ومن رحمته بكم أنه: "ويمسك السماء أن تقع على الأرض" فلولا رحمته وقدرته لسقطت السماء على الأرض، فتلف ما عليها، وهلك ما فيها: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [سورة فاطر: 41]. 

"إن الله بالناس لرؤوف رحيم" أرحم بهم من والدَيهم ومن أنفسهم، ومن رحمته أنه سخر لهم ما سخر من هذه الأشياء. (العدوي، 2010، ص 633)

لقد سخر الله ما في الأرض لهذا الإنسان، فجعل نواميسها موافقة لفطرته وطاقاته، ولو اختلفت فطرة الإنسان وتركيبه عن نواميس هذه الأرض ما استطاع الحياة عليها، فضلاً عن الانتفاع بها وبما فيها، وهو الذي خلق الكون وفق هذا النظام الذي اختاره له، وحكّم فيه تلك النواميس التي تظل بها النجوم والكواكب مرفوعة متباعدة، ولا تسقط ولا يصدم بعضها بعضاً، والله سبحانه هو الذي أنشأ الناموس المنظِّم للوضع القائم، والله سبحانه "يمسك السماء أن تقع على الأرض"، يفعل ذلك الناموس الذي يعمل فيها، وهو من صنعه، "إلا بإذنه" وذلك يوم يعطّل الناموس الذي يُعمله لحكمة ويُعطله كذلك لحكمة. (قطب، 1991، ج4، ص 2441) وقد خلق الله السماوات على هيئةٍ حسنةٍ جميلة وزيّنها بالنجوم والكواكب ليعظُم الاعتبار بها والتفكُّر في خلقها. (الخزعان، 2008، ص 139)
فالله عز وجل أخبر عن خلق السماوات وعظمة اتساعها وارتفاعها، وأنها في غاية الحسن والبهاء والكمال والسناء، قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ [سورة الذاريات: 7]، أي: الخلق الحسن. وقال تعالى: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ۝ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [سورة الملك: 3-4]. أي: خاسئاً عن أن يرى فيها نقصاً أو خللاً، وهو حسير أي: كليل ضعيف، ولو نظر حتى يعي ويكلّ ويضعف لما اطلع على نقص فيها ولا عيب؛ لأنه تعالى قد أحكم خلقها، وزين بالكواكب أفقها، كما قال: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ [سورة البروج:1]، أي: النجوم، وقيل: محال الحرس التي يرمي منها بالشهب لمسترق السمع، ولا منافاة بين القولين. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ۝ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ [سورة الحجر: 16-17]، فذكر أنه زيّن منظرها بالكواكب الثوابت والسيارات، والشمس والقمر والنجوم الزاهرات، وأنه صان حوزتها عن حلول الشياطين بها، وهو معنى: "وحفظناها من كل شيطان رجيم"، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ۝ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ۝ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ﴾ [سورة الصافات: 6-8]. فسبحان المبدع العظيم الذي خلق فسوى، وقدر فهدى. (الخزعان، 2008، ص 140)
وخلق السماوات من العظمة والجلال بما لا يحيط به وصف، ولا يدركه حس، فهي من مخلوقات الله العظيمة الجليلة، وخلق الله فيها من المخلوقات ما لا يعلمه إلا الله سبحانه، ففيها من الملائكة الكرام ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ويكفي في ذلك ما ورد عند البخاري رحمه الله في حديث المعراج؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (... فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم). فإذا كان هذا من أول الخلق، فسبحان الله العظيم كم عدد ملائكة الله على عظمة خلقهم؟ وكم سعة هذه السماوات العظيمة التي استوعبتهم عليهم الصلاة والسلام، وقد جاء في حديث آخر: (أطّتِ السماء وحَقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد...)، وإذا كان هذا واحداً من خلق الله الذي جعله في السماء، فكيف بمخلوقات الله الأخرى التي لا يعلمها إلا هو؟ ويكفي لمتأمل أن يتأمل في حديث المعراج، وما كشف للنبي صلى الله عليه وسلم مما في السماء من خلق. (الخزعان، 2008، ص 145)
ومن بديع خلق السماوات والأرض لونها الأزرق الجميل. يقول ابن القيم رحمه الله: ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو أحسن الألوان وأشدها موافقة للبصر، وتقوية له، حتى إن من أصابه شيء أضرّ ببصره يؤمر بإدمان النظر إلى الخضرة وما قرب منها إلى السواد، فتأمل كيف جعل أديم السماء بهذا اللون ليمسك الأبصار المتقلبة فيه ولا ينكأ فيها بطول مباشرتها له. (ابن القيم، 2011، ج1، ص 207)
ملاحظة مهمة: استند هذا المقال بشكل كبير في مادته المرجعية على كتاب قصة الخلق للكاتب محمد بن عبد الله الخزعان.