شخصية إسلامية رمزية عظيمة نالت حظوة كبيرة لدورها المحوري في توسيع الدولة الإسلامية وفتح الأمصار في المغرب الأقصى وشبه الجزيرة الإيبيرية (الأندلس)، إنها شخصية القائد الإسلامي الكبير طارق بن زياد (50-101 هـ)، وهو أحد قادة الفتح الإسلامي في جيش والي أفريقيا موسى بن نصير في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم.
طارق بن زياد الذي انتقل من البر الأفريقي إلى الأوروبي، وقاد جيوش المسلمين في معارك الفتح المبين في شبه الجزيرة الإيبيرية أو الأندلس (إسبانيا والبرتغال الآن) في رجب 92 هـ/ أبريل 711 م لتخليصها من جور حكامها القوط الغربيين، وكانت أول منطقة نزل بها -حملت اسمه في ما بعد- منطقة جبل طارق، والتي تحولت لدولة مستقلة تحت التاج البريطاني حتى اليوم، وكان هذا الفتح بداية للوجود الإسلامي في الأندلس الذي امتد لنحو 800 عام تقريبا، وكان النصر الساحق بقيادته في معركة وادي لكة التي أنهت حكم القوط للأندلس (محمود شلبي، ص 87).
قوة شخصية طارق بن زياد جاءت من الدور الذي لعبته حتى أن نسبه صار مثارا للجدل والخلافات بين الشعوب الإسلامية، وكل يدعي أن ابن زياد من أصل قريب منه وينتمي له، فمنهم من قال إنه أمازيغي وآخر قال إنه عربي، وغيره قال إنه فارسي، ووصل حد الاختلاف بأنه جزائري أو مغربي، خاصة بعد صدور المسلسل التاريخي "طارق بن زياد".
وقد غدت المسلسلات التاريخية في أيامنا هذه عنصرا مهما في بناء التصورات والأفكار والقناعات التاريخية لدى الأمم والشعوب بخصوص ماضيها، ومثلما يمكن أن يكون لهذه المسلسلات دور إيجابي في التعريف بالتاريخ وتبسيطه لعموم الناس من خلال تصوير حياة القادة العظماء والفاتحين والعلماء يمكن أن يكون لها دور سلبي يتمثل في تنميط التاريخ وبناء أيديولوجيات محلية، مما يُنتج ردود أفعال متباينة حول بعض الشخصيات أو الأحداث التاريخية.
بث في شهر رمضان الحالي مسلسل "طارق بن زياد"، وهو مسلسل تاريخي يحكي قصة فتح الأندلس من خلال تسليط الضوء على طارق بن زياد كشخصية محورية، وبعد عرض بضع حلقات من المسلسل نشبت معارك وسجالات على مواقع التواصل الاجتماعي حول أصل وهوية القائد المسلم العظيم طارق بن زياد رحمه الله.
ومن الغريب أن المرويات العربية والإسلامية لا تحدثنا كثيرا عن فاتح الأندلس بشيء قبل ولايته لطنجة، بل إننا نجد اختلافا واضحا في أصله ونسبه، فقيل إنه فارسي من همذان وكان مولى لموسى بن نصير، وقيل إنه من سبي البربر، كما نجد أيضا من يؤكد على نسبه العربي، وسنحاول أن نعرض لمختلف هذه الروايات.
يورد ابن عذاري المراكشي صاحب كتاب "البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب" نسب طارق بن زياد، ويقول "وقد اختلف في نسبه، فالأكثرون على أنه بربري من نفزة، وأنه مولى لموسى بن نصير من سبي البربر، وقال آخرون إنه فارسي، هو طارق بن زياد بن عبد الله بن رفهو بن ورفجوم بن ينزغاسن بن ولهاص بن يطوفت بن نفزاو" (المراكشي، ج 2، ص 11).
لم يورد ابن خلدون نسب طارق بن زياد بالتفصيل، ولكنه في معرض حديثه عن ظروف فتح الأندلس نسب طارق بن زياد إلى بني ليث، وبنو ليث هم إحدى القبائل العربية المعروفة من فروع قبيلة كنانة (ابن خلدون، ج 4، ص 188).
وفي نفس الاتجاه تقريبا ذهب المؤرخ ابن خلكان صاحب كتاب "وفيات الأعيان" الذي أرجع نسب طارق بن زياد إلى قبيلة الصدف الحضرمية اليمنية (ابن خلكان، ج 5، ص 320).
ويذكر حسين شعيب في كتابه "طارق بن زياد فاتح الأندلس" أن طارق بن زياد هو طارق بن زياد البربري، ينتمي إلى قبيلة "الصدف"، وكانت مضارب خيام هذه القبيلة في جبال المغرب العالية، وهي قبيلة شديدة البطش وكثيرة الغزو وكانت ديانتها الوثنية، وقال "اختلف المؤرخون في نسبته وشهرته، فذكر بعضهم أنه بربري الأصل ينتمي إلى نفزاوة من بربر أفريقيا، وهي البلاد التي يطلق عليها اسم "تونس" الآن، وفي رواية أخرى أنه بربري ينتمي إلى قبيلة "زناتة".
و"يرى البعض أنه من موالي الفرس من مدينة همذان، ولكن مما لا شك فيه ولم يختلف عليه المؤرخون أنه كان مولى لموسى بن نصير، وكان موسى يثق به كثيرا وعينه واليا على مدينة طنجة، وبعدها استدعاه وأوكل إليه فتح إسبانيا لكونه توسم فيه صدق العزيمة والشجاعة والأقدام، وبما أنه يرجح أنه يكون من بربر أفريقيا، فقد كان معظم جنده من البربر، لأنه يستطيع أن يؤثر عليهم ويأخذ بأيديهم إلى النصر" (شعيب، 2004، ص 11).
كما أن من الدلائل التي يعتمد عليها بعض المؤرخين في إثبات النسب العربي لطارق بن زياد مسألة اسمه الثلاثي، فهو طارق بن زياد بن عبد الله كما ورد في جل المصادر التاريخية، والمعروف أن العرب عادة ما كانت تعتمد الاسم الثلاثي عكس البربر، علاوة على أن طارق وزياد وعبد الله كلها أسماء عربية.
ومن المؤشرات الأخرى الوظيفة التي كان يزاولها طارق بن زياد قبيل الفتح، فقد عينه موسى بن نصير قائدا وواليا على طنجة، والمعروف أن بني أمية لم يكونوا عادة يولون على الجيش غير العرب.
يذكر أن طارق بن زياد رجع إلى الشام ومكث هناك حتى توفي سنة 101 هـ/720 م، ويعتبر بعض المؤرخين أن هذا دليل آخر على أنه عربي، فلو كان بربريا لرجع إلى قبيلته وعاش أواخر أيامه بين قومه.
حارب طارق بن زياد الوثنيين في شمال أفريقيا في كثير من المواقع قبل توجهه إلى الأندلس، وعلى يده دخل كثير من أهل المغرب في الدين الإسلامي، وقد توسم فيه موسى بن نصير صدق العزيمة والشجاعة والإقدام، إضافة إلى ما امتاز به من فصاحة اللسان وقوة البيان والتأثير في سامعيه واستماتته في الجهاد وإعلاء كلمة الحق (شعيب، ص 11).
غالبا كان طارق من البربر وعامة جنوده كذلك، فيهم شجاعة وإقدام، فقد تربوا في أحضان الإسلام وعلى تعاليم القرآن الكريم، وأصبحوا أصحاب رسالة خالدة صنعت منهم الأبطال، وقدموا في سبيل دينهم وعقيدتهم الغالي والنفيس، بل نجزم بأن الجيوش الإسلامية الضاربة التي اصطدمت بالإسبان اعتمدت بعد الله على إخواننا من البربر الذين اندفعوا خلف طارق في سبيل هذا الدين ونشره، إن العقيدة الإسلامية صهرت المنتسبين إليها عربا وعجما في رحاب الإسلام العظيم (الصلابي، 2005، ج 2، ص 83).
ومهما يكن -سواء كان أصله تركيا أو روسيا أو صينيا أو أوروبيا أو عربيا أو أمازيغيا أو أنه ينتمي لمنطقة هي اليوم ضمن أراضي المملكة المغربية أو الجزائرية أو اليمنية فلا أحد يمكن أن ينكر الدور العظيم الذي قامت به هذه الشخصية في التاريخ الإسلامي، فقد كان قائدا محنكا استطاع بفضل مهارته العسكرية استكمال فتح الأندلس ونشر الدين الإسلامي الحنيف هناك.
والإنسان المؤمن معياره ليس الجغرافيا السياسية الحديثة ولا الانتماءات العصبية المقيتة أو العرقيات وإنما ميزانه الإيمان والتقوى والعمل الصالح.
فالإسلام هو دين الله تعالى لكل البشر، وبه نزلت كل الرسالات السماوية ونطق به كل نبي باللغة التي يتكلم بها قومه إلى أن نطق الإسلام أخيرا باللغة العربية في القرآن الكريم الذي حمل الرسالة السماوية النهائية للبشر الى قيام الساعة، وهذا في حد ذاته يبين بالحجة القاطعة عالمية الإسلام وأنه المعيار الأسمى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" رواه أحمد في مسنده.
إن التقوى والعمل الصالح هما جوهر كل الرسالات السماوية، حيث خاطب الله تعالى كل الرسل فقال "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون" (المؤمنون: 52).