قد يكون للحركة النَّشطة للتطبيع مع الكيان الصُّهيوني بالشَّكل السَّريع والمعمَّم في البلدان العربية أمرًا صعبًا، بسبب تجذُّر العلاقة المقدَّسة بين شعوب هذه الدول وبين القضية الفلسطينية، ولكنَّ "شياطين التطبيع" لا تيأس أبدًا، فهناك محاولاتٌ محمومةٌ لاختراقات هذا التطبيع لهذه الدول بأشكالٍ مختلفةٍ ومن عدَّة محاور ناعمة.

ففي الحالة التونسية، ومنذ ماي 1996م كانت هناك اتصالاتٌ رسميةٌ بين النظام التونسي والكيان الصُّهيوني، والتي انتهت بفتح مكاتب اتصال رسميةٍ متبادلة، وكانت الخطوة الأكثر علانيةً وإثارةً هي حضور وزير الخارجية الصهيوني (من أصلٍ تونسي) لتونس في 2005م للمشاركة في "القمة العالمية حول مجتمع المعلومات" برعاية الأمم المتحدة، وقد لا تكون من الصُّدف النادرة ثباتُ بعضِ الوزراء في الحكومات المتعاقبة لتونس، وهم الذين تحوم حولهم شبهات التطبيع، ومنهم: أطولُ وزيرٍ للخارجية عمرًا منذ 2011م، وهو الديبلوماسي الذي كلَّفه نظام "بن علي" بافتتاح تمثيليةٍ تونسيةٍ في "تل أبيب".

وكانت السِّياحة الدينية بوابةً لهذا التطبيع النَّاعم، فمع أنَّ الوجود العلني لليهود في تونس لا يتجاوز 1500 يهوديًّا، والذين يعيش أغلبهم في جزيرة "جربة" جنوب تونس، حيث "معبد الغريبة" أقدم وأكبر المعابد اليهودية، والذي يحجُّ إليه آلاف اليهود من مختلف دول العالم سنويًّا، ومع عدم الاعتراض على الحقوق الدينية لأهل الكتاب في ممارسة شعائرهم التعبُّدية إلاَّ أنَّ هذه السِّياحة الدينية المتبادلة انتقلت من الحقِّ الدِّيني إلى الاستغلال السِّياسي للتطبيع، فأصبحت أداةً ناعمةً لكسر ذلك الحاجز النفسي في العلاقة مع هذا الاحتلال الصُّهيوني الخطير.

وقد دوَّن أحدُ الصَّحفيين الصَّهاينة، وهو مستشارٌ في مكتب رئيس الوزراء الصُّهيوني السَّابق "نتنياهو" على حسابه في "تويتر" قوله: "تحيةٌ لفخامة الرئيس قيس سعيَّد. شكرًا للسَّماح لمئات من الإسرائيليين بالسَّفر إلى تونس. نحن يهمُّنا الأفعال وليس الأقوال، وخاصَّة قبل استلام الرئاسة. معذورٌ فخامته. نحن نتفهَّم الوضع. نحبُّك يا فخامة الرئيس"، وهو ما يفضح الازدواجية في الخطاب الرسمي التونسي، والذي بدأ في الحملة الانتخابية بمقولة "قيس سعيَّد": "التطبيع خيانة عظمى.. وكلُّ مَن يتعامل مع كيانٍ محتلٍّ شرَّد شعبًا كاملاً طيلة أكثر من قرنٍ من الزمن هو خائن، ويجب أن يُحاكم بتهمة الخيانة العظمى"، وانتهى بمثل هذا التوجُّه التطبيعي النَّشط.

ثمَّ كان استحقاقُ مشروعِ قانونِ تجريم التطبيع مع الكيان الصُّهيوني، والذي اعتُبر بالونًا لاختبار مدى التوازنات السِّياسية في هذا الملف الحيوي والخطير، وكان لعدم التوافق عليه مع الرَّئيس "قيس سعيَّد" صاحب الصلاحيات الدستورية الحصرية للسِّياسة الخارجية أثرًا كبيرًا في عدم تمريره.

كما شكَّلت عدم الإدانة الرسمية لتطبيع بعض الدول العربية المتخاذلة مؤشِّرًا آخر على هذا التوجُّه المشبوه، فقد ظهر الموقف الرسمي التونسي في مشهدٍ بائس، وكان سكوت "قيس سعيَّد" أقوى من تلك العبارات في مقولته: "التطبيع خيانةٌ عظمى"، إذْ اعتبر أنَّ مسألة التطبيع مجرد: "قرارٍ سيادي، وأنه لا يتدخُّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى"، وهو أقرب إلى التبرير منه إلى عدم التدخُّل. ولا ننسى ذلك الحضور الصُّهيوني الخشن في تونس عبر عملياتٍ استخباراتية انتهكت سيادة وأمن تونس في محطاتٍ تاريخيةٍ قديمةٍ وحديثة، مثل: قصف مدينة حمام الشَّط سنة 1985م، واغتيال القياديين الفلسطينيين: "أبو جهاد" سنة 1988م، و"أبو إياد" سنة 1991م، واغتيال المهندس "محمد الزُّواري" مهندس الطائرات بدون طيار في كتائب عز الدِّين القسام يوم 15 ديسمبر 2016م بمدينة صفاقس، ومع ذلك فإنَّ منظومة الحكم الحالية في تونس تتَّجه رأسًا للانخراط المشؤوم في علاقاتٍ مع هذا الكيان الصهيوني المجرم، بما فيها المشاركة في مناوراتٍ عسكريةٍ مشتركةٍ معه في المغرب، ففي الوقت الذي فقَد فيه المغرب السِّيادة الكاملة، وأبرم اتفاق الخيانة والتطبيع مع الكيان الصهيوني في ديسمبر 2020م ضمن سلسلة اتفاق "أبراهام" الديني للتطبيع، زار وزير الدفاع الصهيوني المغرب في نوفمبر 2021م وعقد اتفاقياتٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ خطيرة، تتضمَّن صفقاتٍ لبيعِ معدَّاتٍ أمنية، وإجراء تدريباتٍ عسكريةٍ مشتركة، وقد أكَّدت وكالاتٌ عالمية مشاركة تونس يوم 16 جوان 2022م في "تدريبات الأسد الإفريقي 2022م" بالمغرب إلى جانب الكيان الصهيوني، وهو ما اعتبرته قوى سياسية ومدنية تونسية "انخراطًا تونسيًّا في التطبيع"، وحمَّلت الرئيس "قيس سعيَّد" المسؤولية الكاملة عن ذلك، وهو ما يجعلنا في الجزائر لا نثق كثيرًا في ميكيافيلية هذا الرئيس.

إنَّ محاولات جرِّ تونس إلى مستنقع التطبيع يهدف - كذلك - إلى محاصرة الجزائر بالخيانة والغدر، بعد أنْ تحوَّل المغرب إلى منصةٍ للتهديد الصُّهيوني للجزائر، ومنها تصريحات وزير الخارجية الصهيوني من الدار البيضاء المغربية شهر أوت 2021م، حيث قال: "إنَّ إسرائيل تعبِّر عن قلقها من دور الجزائر، التي أصبحت قريبةً من إيران، والتي تقف وراء الحملة الأخيرة بهدف منع إسرائيل من الحصول على صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي".

ولا ننسى الحالة الليبية، حيث محاولات السَّيطرة على السُّلطة من قِبل "خليفة حفتر" ومَن يقف وراءه من الدول العربية المطبِّعة كمصر والإمارات، وهو الذي تربطه علاقاتٌ مفتوحةٌ مع جهاز الموساد الصُّهيوني، فقد أكَّدت الصحيفة العبرية "معاريف" بأنَّ "حفتر" وَعَد بالانضمام إلى اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل فوْرَ وصوله إلى الحكم، وأكَّدت بأنَّه أرسل ابنه "صدَّام حفتر" في زيارةٍ سريةٍ إلى إسرائيل لإجراء محادثاتٍ مع مسؤولين إسرائيليين من أجل التطبيع الكامل، في مقايضةٍ مفضوحةٍ بين "السُّلطة" و"التطبيع"، وإدارةٍ مكشوفةٍ للصِّراع الليبي به.

لقد تنبَّهت الجزائر إلى هذا الخطر الصُّهيوني، فأطلق الرَّئيس "تبون" صيحته المشهورة بأنَّ "طرابلس خطٌّ أحمر" عندما حاول "حفتر" دخولها بالقوَّة، لولا تعرُّضِ قواتِه إلى هزيمةٍ مدوِّيةٍ بسبب التدخُّل العسكري التركي الفعَّال، وفق الاتفاق السِّيادي في ديسمبر 2019م مع حكومة الوفاق الوطني الشرعية المعترف بها دوليًّا.

لم تسلك الجزائر في مواجهة خُبث عمليات الحصار بالتطبيع مسلك الدِّفاع أو الانزواء المعهود، بل ارتقت إلى المبادرة بالهجوم وفق مبادئ الدولة الجزائرية في نصرة القضايا العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، استنادًا إلى العقيدة التاريخية لها وإلى الإجماع الشَّعبي، وهي تربط بين مبدئية القضية والواقعية السياسية المنسجمة مع جوهر التحوُّلات في ميزان القوة الدولية، ومنها: تطوُّر علاقات الجزائر بروسيا والصين وتركيا وإيران ومحور المقاومة الشَّعبية والرَّسمية. فبالرَّغم من التصنيف الغربي لحركة "حماس" كمنظمةٍ إرهابية، وبالرَّغم من التحفُّظ الكبير للجزائر من زيارة قيادة حماس إلى المغرب في جوان 2021م بعد تطبيعه مع الكيان الصهيوني، وبالرَّغم من خطر تمدُّد موجة التطبيع في الجسم العربي والإفريقي، وعقْدِ اتفاقياتٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ مع العدوِّ الصُّهيوني، ومع ذلك فإنَّ الجزائر تعاملت بمنطق السِّيادة الكاملة، فوجهَّت "ضَرْبة مْعلَّم" بمفاجأةٍ من العيار الثقيل، وذلك بدعوة قيادة "حماس" للمشاركة في الاحتفالات الرَّسمية بالذكرى 60 لاستقلال الجزائر.

 وكان السَّقف عاليًّا في الاحتفاء بالمقاومة والانتصار لها برمزية المكان، وهو الاستعراض العسكري الأضخم في تاريخ الجزائر بمسجد الجزائر بالمحمدية، وبرمزية الزَّمان، وهو ذكرى الإنجاز التاريخي الأكبر لأعظم ثورةٍ تحرُّريةٍ في القرن العشرين، وبرمزية الإنسان، وهو حضور القائد المجاهد إسماعيل هنية في المنصَّة الرئاسية مع زعماء الدول والحكومات، ومع كبار المجاهدين والقيادات العليا للمؤسَّسة العسكرية، والارتقاء بقواعد البروتوكولات الرَّسمية له كعُنوانٍ للاحتضان الرَّسمي والشَّعبي للمقاومة، وهي تسمع هتافات القوات الخاصَّة للجيش الجزائري في ذلك الاستعراض القوي: "غزَّة.. قوَّة.. غزَّة.. قوَّة.. غزَّة.. قوَّة".                                                    

سموُّ هذا الانتصار للمقاومة تجسَّد كذلك في حجم ونوعية لقاءات قيادة "حماس" بمختلف القيادات العسكرية والأمنية والسِّياسية، وبمختلف الأحزاب السِّياسية ومكوِّنات شبكة المجتمع المدني، وبالشخصيات الوطنية والنشطاء في القضية الفلسطينية، وكان التتويج لذلك كلِّه هو: الإنجاز الديبلوماسي في الجمع بين الرئيس "محمود عباس" والقائد "إسماعيل هنية" كخطوةٍ رمزيةٍ في كسر الجمود وتذويب الجليد بعد القطيعة الطويلة بين هذه القيادات، وتهيئة الأجواء الإيجابية لتجسيد استحقاق المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام.