كثير من الناس يَتَهَيَّبون مواقعة الأمور العظام، ويحذرونها، ويستعدون لإنجاز الأعمال الشاقة، ويتحملون ذلك، ولكنهم لا يلتفتون لصغار الأمور وتفاصيلها، بدعوى أنها غير مهمة، والتفريط فيها لا يترتب عليها عواقب وخيمة!!!

لكن المتأمل في أحكام الإسلام وتشريعاتها، يجدها تهتم بأصول الأحكام، كما تهتم بفروعه، تُولي العناية للكليات، كما تهتم بالجزئيات، وإن كانت متفاوتة في الأجر والثواب. وتُحَذِّر من كبائر الذنوب، كما تُحذر من صغائرها ومحقراتها. ومثال ذلك:

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إيَّاكُم ومحقَّراتِ الذُّنوبِ فإنَّهنَّ يجتمِعنَ على الرَّجلِ حتَّى يُهلِكنَهُ كرجلٍ كانَ بأرضِ فلاةٍ فحضرَ صنيعُ القومِ فجعلَ الرَّجلُ يجيءُ بالعودِ والرَّجلُ يجيءُ بالعودِ حتَّى جمعوا من ذلِكَ سوادًا وأجَّجوا نارًا فأنضجوا ما فيها "

مسند أحمد بن حنبل، رقم الحديث 3818.

ففي الحديث حذَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أُمَّتَه مِن الذُّنوبِ كلِّها صَغيرِها وكَبيرِها؛ لأنَّه إذا كانتِ الكبائرُ ظاهِرَةً، وأثَرُها يَكونُ واضِحًا، فإنَّ صَغائِرَ الذُّنوبِ قد تَكثُرُ في فِعلِ الإنْسانِ دُونَ أن يَشعُرَ، فتُصبِحُ مُهلِكةً له.

كما أنها أسْبابٌ تُؤَدِّي إلى ارْتِكابِ الكَبائِرِ، فصِغارُ الذُّنوبِ تَجُرُّ بعْضُها بعْضًا حتى تُزيلَ أصْلَ السَّعادةِ بهَدْمِ الإيمانِ عندَ الخاتمَةِ، فيَهلَكُ المَرْءُ إذا لم يُكفِّرْ عنها "كرَجُلٍ كان بأَرْضٍ فَلاةٍ"، أي: صَحْراءَ، وهذا من ضَرْبِ الأَمْثالِ طَلبًا لِمَزيدٍ مِنَ الفَهْمِ، "فحَضَرَ صَنيعُ القَوْمِ، فجَعَلَ الرَّجُلُ يَجيُء بالعودِ، والرَّجُلُ يَجيء بالعوِد"، والعودُ هو صِغارُ فُروعِ الأَشْجارِ الجافَّةِ "حتى جَمَعوا من ذلك سوادًا"، أي: كَمًّا كبيرًا "وأَجَّجوا نارًا" بإشْعالِها "فَأَنْضَجوا ما فيها" من الطَّعامِ وغيْرِه، فكذلِك الصَّغائِرَ إذا انْضَمَّتْ وتَراكَمَتْ؛ اسْتَعْظَمَ أَمْرُها، وكان وَبالًا على صاحِبِها . لأن اعتيادها يؤدي إلى ارتكاب الكبائر، من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فيكون الهلاك بالكبائر التي تؤدي إليها الصغائر. ومن أعظم مصائب هذه المحقرات أن اعتيادها يؤدي إلى قلة المبالاة بها، وأنها تُظلِم القلب وتُسوِّده، إذا لم يتب منها صاحبها، ويستغفر الله تعالى.

وكما قال الشاعر:

خَلِّ الذُنوبَ صَغيرَها وَكَبيرَها فَهوَ التُقى
كُن فَوقَ ماشٍ فَوقَ أَر ضِ الشَوكِ يَحذُرُ ما يَرى
لا تَحقِرَنَّ صَغيرَةً إِنَّ الجِبالَ مِنَ الحَصى

فالأمور الصغيرة تكون مهمة، فيُحكى أن كارثة تَحَطُّم مكوك الفضاء تشالنجرSpace Shuttle Challenger disaster)‏ حادثة وقعت في 28 يناير 1986، عندما أطلقت ناسا مكوك تشالنجر في رحلة الفضاء، إنفجر المكوك بعد اطلاقة ب 73 ثانية، مما أدى إلى مقتل جميع أفراد طاقم المكوك السبعة ودُمِر المكوك فوق المحيط الأطلسي قبالة ساحل كيب كانفرال في ولاية فلوريدا جنوب شرق الولايات المتحدة، التي أدمت قلوب الكثيرين، تَسَبَّب في حدوثها عدم إحكام غلق حلقة دائرية، قَدَّر الخبراء قيمتها بسبعين سِنتا. لقد تسببت تفصيلة بدت تافهة في نهاية مروعة لحياة أشخاص.

كما أن جزئيا واحدا من الرواسب لو علق بمحرك مركبة السباق فورمولا 1: Formule 1) ) فقد يكلفهم خسارة السباق بكامله، أو الأسوأ من ذلك، وقد يُنتج عنه خسارة حياة، فعليا" .

و "إن اتخاذ قرار أفضل بنسبة 1% أو أسوأ يبدو عديم الأهمية الآن، لكن على مدار اللحظات التي تؤلف عُمرا، فإن هذه الخيارات تُحدِد الفارق بين ما أنت عليه الآن، وما يمكنك أن تكُونَه. فالعادان نِتاج للعادات اليومية، وليس التحولات التي تحدث مرة واحدة في العمر" جيمس كلير، العادات الذرية، ص 26.

وكما تقول الحكمة اليابانية" بسبب مسمار ضاعت حدوة الحصان، وبسبب حدوة الحصان ضاع الحصان، وبسبب الحصان ضاع الفارس، وبضياع الفارس لم تصل الرسالة، وبسبب ضياع الرسالة خسرنا الحرب.!

إذن، يُعد أسلوب" المكاسب الصغيرة" من الطرق الفعالة التي تساعد على التحلي بالمرونة. فالأهداف الكبيرة تبدو بعيدة المنال، وغالبا تفتقر عزيمة الناس حتى قبل البداية في سبيل تحقيقها. من اللطيف أن نحلم في الحياة حُلما كبيرا، ولكن حين يكون الحلم كبيرا يرهبنا أحيانا حجمه. وأفضل الطرق للتعامل مع هذا الشعور هي أن نُركِّز على الأهداف الصغيرة السريعة التي تؤدي إلى نجاح يمكن قياسه بالنسبة للهدف الأكبر" سابرا إي بروك، الرجال يتجهون نحو الشرق، والنساء نحو اليمين، ص 113

لذلك تجد شركة صناعة الأغذية تستعين بخبراء في المجال، من أجل التدقيق في أدق التفاصيل في الأغذية التي تصنعها من أجل جذب المستهلكين، مثل لون الطعام أو المشروب، ونسبة الأملاح والدهون، والسكريات والبروتينات فيه، وكمية الهسيس في المشروبات الغازية وغيرها من المكونات التي تستحث دماغ المستهلك، وتجعله يرغب فيه مجددا.

 والاستهانة بصغائر الأمور قد يُودي بحياة المرء" بَيْد أن المرء الذي يخشى على حياته أن يتناول جرعة كبيرة من السم-لوضوح خطرها- قد يستهين بتناول أجزاء دقيقة منها تكون مطوية في أطعمة مكشوفة، أو أطباق قذرة، أو أيدِ ملوثة، أو ما شابه ذلك. ومن ثَمَّ يصيب بدنه من العلل ما قد يُودي به، مثلما تُودي به رصاصة قاتلة، أو طعنة غادرة" جدد حياتك، محمد الغزالي، ص 67.

وقص علينا ديل كارنيجي في كتابه "لا تقلق" حكاية شجرة ضخمة نبتت منذ أربعمائة عام، وخلال حياتها أصابها البرق أكثر من أربع عشرة مرة، ومرات لا تُحصى من العواصف والرعد. ولكنها نجت منها جميعا، وفي النهاية هجم عليها جيش من الخنافيس وسقطت على الأرض، فقد وجدت الحشرات طريقا إلى داخل اللِّحاء، وبالتدريج دمرت قوتها الداخلية بهجومها الضئيل المتواصل، فعملاق الغابة التي لم يَذْوِ عمرها الرعد ولا البرق ولا العواصف، تمكنت منها الخنافيس الصغيرة الضئيلة التي يمكن للإنسان سحقها بين يديه" لا تقلق ص 110

لذلك فالأشخاص الذين لا يملكون مهارة الانتباه للتفاصيل الدقيقة، تضيع عليهم فُرص الابتكار والتطوير

وكما قال الشاعر

إِنَّ الأُمـــورَ دَقـــيـــقَهـــا مِــمّـا يَهـيـجُ لَهُ العَـظـيـمُ

وشخصية الإنسان في نهاية المطاف هي نتيجة مجموعة من العادات الذرية والصغيرة التي اكتسبها مع مرور الزمن، والعادات عند التحقيق كانت في بدايتها مجرد خواطر، فإذا كانت خواطر سيئة أنتجت عادات سيئة= شخصية سيئة.

وإذا كانت خواطر حسنة، أنتجت عادات جيدة= شخصية جيدة.

"فالعادات أشبه بذرات حياتنا. وكل عادة تُعَدُّ وحدة جوهرية تُسهم في تَحَسُّنك الإجمال. في البداية تبدو هذه العادات الروتينية البسيطة غير مؤثرة، لكن سرعان ما تتراكم على بعضها، وتُشكِّل نواة مكاسب أكبر تتعاظم وصولا إلى درجة تفوق تكاليف الاستثمار المبدئي المبذول فيها. فهي صغيرة وقوية في الآن عينه" جيمس كلير، العادات الذرية ص 39.

ولمعرفة مزيد من التفاصيل على كيفية تكوين العادات، يُرجى قراءة مقالنا في مدونة عُمران كيف تصنع العادات صاحبها؟

لذلك الاستهانة بالخواطر- التي تبدو صغيرة- فيه خطر عظيم، كما قال ابن الجوزية"وأما الخطرات فشأنها أصعب، فإنّها مبدأ الخير والشرّ، ومنها تتولّد الإرادات والهمم والعزائم. فمن راعى خطراتِه ملَكَ زمامَ نفسه، وقهر هواه. ومن غلبته خطراتُه فهواه ونفسه له أغلَب، ومن استهان بالخطرات؛ قادته قسرًا إلى الهلكات. الداء والدواء 353.

ويقول أيضا "دَافع الخطرة فَإِن لم تفعل صَارَت فكرة، فدافع الفكرة، فان لم تفعل صَارَت شَهْوَة، فحاربها فَإِن لم تفعل صَارَت عَزِيمَة وهِمَّة، فَإِن لم تدافعها صَارَت فعلا، فَإِن لم تتداركه بضدّه صَار عَادَة، فيصعب عَلَيْك الِانْتِقَال عَنْهَا" كتاب الفوائد ص 31.

ومثال ذلك استهانة كثير من الناس بالنظر إلى ما حرم الله، واعتبار ذلك شيئا هينا"والنظر أصل عامّة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإنّ النظرة تولّد خطرةً، ثم تولّد الخطرة فكرةً، ثم تولّد الفكرة شهوةً، ثم تولّد الشهوة إرادةً، ثم تقوى فتصير عزيمةً جازمةً، فيقع الفعل، ولا بدّ، ما لم يمنع منه مانع. وفي هذا قيل: الصبر على غضّ البصر، أيسرُ من الصبر على ألم ما بعده.

كما قال الشاعر:

كلُّ الحوادث مبداها من النظرِ ... ومعظمُ النار من مستصغَر الشررِ
كم نظرةٍ بلغت من قلب صاحبها ... كمبلغ السهم بين القوس والوتَرِ

ابن قيم الجوزية، الداء والدواء، ص 351.

لذلك جدير بالإنسان الكيِّس الفطن أن ينتبه إلى ما يصدر عنه من أفعال وأقوال، وإن كانت تبدو صغيرة في عينيه، تلك الأمور الصغيرة "يَعُدُّها الآخرون عليه، ويستنجون منها أفكارا أو يرون وراءها نيات غريبة. وقد يترتب على ذلك نتائج فادحة" محمد الغزالي، جدد حياتك، ص 69.

كما المسلم عليه أن لا يحتقر من الذنوب شيئا، وأن يدفع الخواطر الرديئة عند تَوَلدها، ويحولها إلى خواطر جيدة، وأن يهتم بأدق التفاصيل، فربما تلك التفاصيل هي الفرق الذي يصنع الفارق في حياته الدنيوية والأخروية.