تأمل لؤي أبيه، فسأله: لماذا رمضان ليس كبقية الأشهر؟ بحكم سن لؤي، تعقل الأب في كيفية الإجابة على سؤاله، فكانت على قدر فهمه. فقال له: "يا لؤي، مَن مِنْ إخوتك أعتمدُ عليه بكثرة في شؤون المنزل؟". فرد لؤي: "أحمد". فقال الأب: "أيمكنك أن تخمن لماذا يا بني؟". فردّ الابن: "لأنه الأعظم". قهقه الأب وقال: "بترديد أحسنت يا بني بردّك هذا استنزفت لي طريق الإجابة. عبقري كأبيك تماماً (هههه) وصفتَ أخيك بمفردة عظيم وليس كبير ولا قوي، وهي بالضبط ما أبحث عنه لأعطيك إجابة عن معنى الصيام".

لؤي: "طيب هات ماعندك يا أبتي؟" الأب: "إن رمضان يا بني ليس كأيّ شهر، فهو أعظم الأشهر". لؤي: "كيف يعني أعظم الأشهر (شرح) ؟" الأب: "سأجيبك، لكن دعنا نتحدث في مسألة عظمة أخيك هذه، ومنها سنتسرب رويداً رويداً إلى الكشف عن إجابة سؤالك يا ولدي".

 

أولا: وصفت أخيك بالعظمة فهو فعلا عظيم وكامل؛ لكونه إنسان، وللإنسان عظمة لكنها محدودة تماما كوجوده الزماني والمكاني عظمة تلمق مشارفها النهائية عين البصيرة يعتريها النقص، والقصور لعدة أحكام. عظمته يستمدها من نفخته الأولى المصورة لجسمانه، وكيانه المعلنة عن إنسانه وعن حجم الفروقات بينه وبين غيره من خلق الرحمن. بني إذا تحدثنا عن عظمة وكمال للإنسان فبالضرورة لهما مشارف بحكم خصوصية الإنسان من ناحية تكوينه الخلقي وبمحدودية قدراته، وإمكاناته، وأيضا بحكم القدرة الكلية التي تتحكم في وجوده (المولى عز وجل) وبالتالي قدرته جزئية، وعظمته مصدرها تلك النفخة الإلهية الأزلية (نفخت فيه من روحي) نقترب منها ونبتعد بفعلنا حيث يقترب الإنسان من كماله كلما شعر بعظمة روحه التي بين جنبيه، وقدرها أيما تقدير، فلا يرضى لها الدنيّة بأيّ شكل من الأشكال، ويبتعد طرداً وعكساً عن كماله حتى يصل للقاع، ومنتهى النقصان والخفّة والانحطاط لو لم يشعر ويقدر روحه العليّا.

أ فهمت يا ولدي كيف هي عظمتك الإنسانية، وميزتك المتفردة؟

 لؤي: نعم يا أبتي فهمت.

الأب: فتأملها لتحدد هويتك، وتعرف كيف تقترب من كمالك.

ثانيا: رمضان بين الأشهر كأخيك بين أخوتك هو أعظم الأشهر ليس لكونه شهر صيام ولا صلاة ولا صدقة ولا قيّام ولا صلة رحم ولا أمر بمعروف ونهي عن منكر؛ لأن كل ذلك يمكن أن يحدث في بقية الأشهر؛ بل لكونه شهر بقدر وبخصوصية، وأحداث تعظّمه عن بقية الأشهر، ففيه أعظم الرسالات نزلت، ومعظم الانتصارات الكبرى للمسلمين تحققت، كيوم الفرقان المشهود، وفتحت أبواب مكة ومنها أعلن الإسلام لمدن العالم عن شرعته السماوية الخاتمة الشاهدة، وبنوده الإنسانية الشاملة  كبند: اذهبوا أنتم الطلقاء، ومعركة القادسية بقيادة ابن أبي وقاص الفاصلة بين المسلمين والفرس، والتي كانت الفيلة محور درس لكل مسلم عنوانه وجوب التكيف مع كل مستجد وضرورة الاجتهاد لإيجاد الحل لأي طارئ، وفيه فتحت الأندلس، ووقعت معركة عين جالوت الفاصلة، ودوّت صرخة: وا إسلاماه بين المسليمن والتتار، وحدثت معركة حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي بين الصلبيين والمسلمين، وأخيرا وليس آخرا من سلسلة حركة وعمل المسلمين في هذا الشهر العظيم معركة بلاط الشهداء (فرنسا) التي انهزم فيها المسلمون؛ بيد أنها  حدثت في عز رمضان.

هذا وغيره ياولدي لدليل قاطع على أن رمضان شهر من أعظم الأشهر لارتباطه الوثيق بالعمل والجد والحركة والأجر المضاعف، ولرسالته الواضحة لمعشر المسلمين بأن البداية نقطة فارقة في حياة كل إنسان مسلم مؤمن وجب الشكر عليها  ولا يكون ذلك إلا بالمفتوحات العظيمة على مستوى الأمة، والفرد، واستثمار مناسباتها الجليلة في إجلاء الكسل والخمول والفتور، وإرساء الجد والعمل والمثابرة، وبالتالي مفهوم رمضان بهذا الطرح  يضع مفهوم رمضان اليوم بين ظفرين! 

وعلى ضوء ما تقدم  يا بني حتى أبيك معظم ما أنجز يرتبط برمضان لا أعرف ما السر بالضبط، لكنه شهر بركة وتحقيق وانصحك بني بأن تأخذ ذلك في الحسبان وكلما هلّ هلاله شمّرْ عن ساعد الإنجاز، والتعمير.

الأب: ما سنتحدث فيه قد يصعب ويتشكل عليك ووراء ذلك أسباب، لكن ياولدي هذا الحوار يليق بمن يقع على عاتقه تكليف السماء، بمن يؤمل منه أن يحدث فرقا يصنع مجدا وينشر خيرا واستسمحك عذرا.
الصوم يابني لايعني تمكن الجوع والعطش منا بتاتا، وإن كان الحول من حولك يعني الصوم بهذا المفهوم؛ أي الجوع والعطش أتعرف أن بيننا من هم صائمون أبد الدهر لا يعرفون للعيد لونا ولا طعما صائمون وبأرهق أنواعه وسيتَقبل الله ذلك الصيام وسيجزي القائمون على موائده؛ لأن اسمه العدل الرحمن الرحيم المنتقم.

هناك أرقام بشرية هائلة بيننا يعانون ويلات الصوم بمفهوم الجوع والعطش نتيجة سياسات عامة سيئة المنطق والتدابير، تُخيفهم المناسبات الدينية، والأرضية كما تخيفهم اليوميات كون المناسبات الدينية، والأرضية  أضحت عبارة عن فرص استرزاق تتطاحن الحكومات مع رجال الأعمال من أجل الظفر بها، فالواحد من هؤلاء الصائمين قهرا اليوم لو ملك  قوت يومه لظن أنه حاز الدنيا بحذافيرها.

من قبل أن تبصر النور عانت شعوب هذا العالم  المكلوم  المقهور أشد أنواع الصيام آلا وهو صيام: الحرية؛ أي إنها سُلبت الإرادة، والرأي الحر، وحرية الاختيار، والتعبير، والمشاركة، والقرار، وحتى الترحال لامعنى للسجن إن لم يكن انعدام رأيك وطمس إمكانك وتكبيل قدراتك. شعوب لايمكنها أن تبوح بإيمانها ولا برأيّها ولا أن تعبر عن دواخلها، ولا أن تظفر بفرضها الطبيعية حال دون عيدها رفرف الجبابرة المتسلطين الذين نصبوا أنفسهم آلهة لعالمنا المنكوب.

صائمون ياولدي بصنوف شتى صامت عقولهم عن التفكير، و أدمغتهم عن الإبداع، وفرض عليهم أن يفكروا كالقطيع.

لؤي: قطيع ماذا تقصد بالقطيع؟

الأب: أقصد بالقطيع مجموعة من الناس لظروف شتى  سلمت عقولها لشخص، أو مجموعة لتفكر بدلها عنها ولتقودها حيث تشاء ولتملأ بطونها على حساب عرق جبينها فتنظر المجموعة المسلم لها أو الفرد المسلم له إلى هولاء (القطيع ) على أنهم من غير طينها وأن دورهم في الحياة خدمتهم وعيالهم وزبانيتهم، وبالتالي خطوة التهميش والبطش بالقطيع في سبيل رخائها ورفاهه أمر لا حرج  فيه ومسلم به.

أرادوا أن يجعلوا منهم قطيع خرفان مروضة لا يحدث ضجيج صوتها فرقا يصنعون من جلودها وفرائها ثيابا بها يتفاخرون، وإن أحدثت صخبا ملحوظا تذبح لإشباعها وبقائهم على قمة الحياة هائمون. 

 في هذه العوالم المتأخرة  كثيرا ما يشعر  الصائم عن الحرية والكرامة والإنسانية بشيء من هذا القبيل، فيهاجر الديار الشحيحة الصلدة  سالكا  كل الطرق بما فيها الوعرة  المؤدية للهلاك بحثا  لعله يجد موائد مزركشة تدب في عظمة الحياة  من جديد، وفعلا يعثر عليها  لكنها بعيدة جدا عن مسقط رأسه، ومكان ذكرياته، وحديث تراثه.

عذرا بني إن أطلتُ حديثي  استحملني  لأكمل  بعضا ممّا في خاطري عن الصيام  
الابن: لا إشكال أبتي تفضل  كلّي آذان صاغية، وعقل يقظ منتبه.

الصوم الحقيقي المطلوب

يا ولدي الصوم المطلوب النابع من مفهوم الصوم الحقيقي وعلى غرار سيولة الاستبداد طولا وعرضا في عالمنا المضطرب أن يصوم صعاليك الأرباح عن لهيب الأسعار أن يعرفوا أن الرحمة  تُدخل الجنة،  فيصوموا عن القسوة ويتلطفوا بالناس ويرفعوا جيوبهم عن فحش الغلاء.
الصوم الحقيقي والذي تريده الشعوب الأبيّة أن يصوم الطغاة عن تدبير شؤون البلاد وذلك لا يكون إلا برحيل أبديّ من واقع الناس يُنتج السلام، يجسد الحياة الطيبة.

أن يصوم المستبدين في كافة المجالات، وفي البيوت، و في المؤسسات، وفي الأفكار  عن الظلم، والجهل، والغطرسة،  والتزمت، وكبح الحريات،  والتنكيل، والسحل بمن قدر لهم أن يكونوا يوما ما تحت سلطتهم.

أن يصوم الإعلام عن  ما يبذر من فسوق، وينثر من فجورٍ، وما يفعل من تزوير، و تتفيه، وتجهيل ليس في شهر من السنة (رمضان)  فحسب، بل على مدار السنة، وأن يعرف أنه أداة  صنعتها الشعوب، ملك لها، صوت لها، مرآة  تعكس مشاكلها وتطلعاتها،  ولا يترنح ما يخدم الجمهور فكرا وتثقيفًا، ومزاجا، وأن يعلن يوم عيدٍ لا رفث فيه ولا فسوق، ولا تمجيد لطواغيت منتهية الصلاحية.

أن يصوم رجال الدين عن خدمة البلاط الغاشم، وأن يقفوا في صف الكثرة،  فالأمة لا تجتمع على ضلالة، وكما قال الدكتور سيف عبد الفتاح:  السلطان الغشوم هو الفتنة التي تدوم؛ إذن صوموا يارجال الدين عن ديمومة الفتنة، ففي ذلك بناء الأوطان، وأمان الإنسان، واستدامة العيش الكريم.

وفي الأخيرة أتمنى يا بني أنيّ قد وفّقتُ في إيضاح مفهوم الصوم بمعنى ما، وأن أكون قد مكنتك من القدرة على معرفة من هو الصائم  بمفهوم الصوم الحقيقي ومن هو الصائم بمفهوم صوم الجوع والعطش، ومن يحتاج فعلا إلى أن تصوم الناس عن أفعاله وأقواله، وأن صوم الجوع والعطش أبعد ما يكون من الصوم الحقيقي، صوم الروح، وصوم الأشرار عن أقوالهم، وأفعالهم المعرقلة للنّماء والارتقاء، المصفّدة للحياة عامة.