هكذا يتمترس كل شيء ويأخذ أهبة الاستعداد للانقضاض على ما تبقى من رُفاة الإنسان في مجتمع المُدن الحديثة. في كل صباح، ولا تزال خيوط الشمس يحجُبها الأُفق البعيد، أتساءل وأنا في طابور طويل عريض من المركبات بكل أنواعها الفاخرة. إلى أين يسعى الإنسان؟ ما الذي ينقصه حتى تراه يركض كل هذا الركض منذُ الصباح حتى المساء؟ كل شيء في متناول يديه، لقد طوع كل شيء تقريبا، فإلى أين هو ذاهب؟ ما الذي تبقى منه لذاته؟ هل حقا أن الحاجة هي من تدفعه بهذه الشراهة المفرطة للحصول على الأشياء؟ في كل مرة، وبعد صراع مع الفكرة ونقيضها، أخلص إلى أنه ذاهب نحو حتفه لا محالة، إنه الحتف نفسه الذي يدفع إنسان المدينة الحديثة لمغادرتها هروبا كلما سنح له الوقت أن يترك ما يحمله بين يديه من متاعها.

إن ما يدفع الإنسان بكل هذه الشراهة ليس دافع الحاجة، وإنما دافع الاستهلاك الفائض عن الحاجة، لا يزال الاستهلاك يشكل الهاجس الذي يقض مضجع مجتمع المدن الحديثة. أن تعيش في المدينة الحديثة يعني أن تكون إنسانا حديثا، مزيدا من الاستهلاك، أن تستهلك أكثر بمعنى أن تلهث أكثر، أن تلهث أكثر بمعنى أن تصبح ترسا صغيرا في طاحون المدينة العملاق. إن العيش لبضعة أشهر في المُدن الحديثة كفيل بأن يجعلك ترسا صغيرا في منظومة تُروس وطواحين عملاقة لا تتوقف ليل نهار.


 هكذا هي حياة المُدن الصناعية، من لا يستهلك أكثر إنما يحاول أن يوقف الطاحون العملاق عن عمله، ومن يحاول فعل ذلك إنما يضع نفسه أمام منظومة معقدة من التروس التي تلفظه إلى خارج المدينة رغما عنه. 

أتساءل وأنا أمشي في الشوارع، وأنا أتجول في المتاجر، في الحدائق، وأحيانا وأنا أنظر من شرفة البيت، وأنا أنظر في كمية الأشياء في المنزل، بعد هذا الجهد المُضني الذي بذله الإنسان في إنتاج ما لا حصر له من الأشياء، يا ترى من يملك من اليوم؟ هل نحن من يملك الأشياء التي تحيط بنا اليوم؟ أم أن الأشياء هي من تملكنا؟

 لقد بدأ الإنسان في إنتاج الأشياء بوصفها حاجة تفرضها الضرورة لتُعين الإنسان وصولاً به إلى تحقيق ذاته والارتقاء بها، بيد أن الأشياء التي يُنتجها إنسان اليوم لم تعد متعلقة بالحاجة أو الضرورة، لقد أصبح الهدف الرئيسي من إنتاجها أن يُصبح الإنسان شيئا من جملة الأشياء، فبدلا من أن يكون فائض إنتاج الإنسان لتحسين حياته الأسرية والعائلية والمجتمع من حوله نحو إنتاج الثقافة، نحو تحسين الوضع الصحي للإنسان، نحو معرفة نفسه أكثر والسمو بها وبالمجتمع من حوله، أصبح الإنتاج استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، الإنتاج من أجل اللهث خلف الأشياء بوصفها رغبات وملذات يتم تحقيقها دون حواجز ودون حدود، وهذه الرغبات تُنتج بطريقة مستمرة ليس لها نهاية، ينتظرها الإنسان كرضيع بفم مفتوح لكي يُغذى أكثر فأكثر، ومهما أستهلك الإنسان وتبضع وملك من الأشياء، سيظل يشعر بأنه فقير لا يملك شيئا أمام آلة الإنتاج الضخمة، والوتيرة لاتزال مستمرة لإنتاج الأشياء الجديدة والمبتكرة لتجويع الرضيع أكثر فأكثر، نحو مزيدا من الاستهلاك. 


إن شعور إنسان المدينة الحديثة بالفقر لا يُعد فقراً حقيقيا بقدر ما ينم عن القلق الذي يولده اللهث خلف الأشياء، إنه الفراغ والإحباط الذي يولدها الخوف من عدم تلبية الرغبات التي لم ولن تنتهي، إنه فقر (الموديلات الجديدة) إن صح التعبير، فقر أن تكون (مودرين مان) أن تكون خارطة شعارات الماركات العالمية ظاهرة على أجزاء جسمك والأشياء التي تملكها. 

يتساءل إيريك فروم في مؤلفه "الإنسان المستلب وآفاق تحرره " لماذا هناك أناس تتبضع وتأكل ليس لغرض الأكل والتبضع؟ يرى إيريك أنهم يفعلون ذلك من أجل إخفاء خوفهم أو إحباطهم، يستهلكون بلا هوادة من أجل الخروج من قلقهم، إن الاستهلاك يوعد بالشفاء، ثم يضيف: وبالفعل فإن حالة القلق والخوف والإحباط تقل قليلا عندما يُشبع دافع الاستهلاك.

يسوق إيريك مثالا ظريفا من حياتنا اليومية عن ذلك الشعور بالقلق والفراغ، يقول: يمكن للكثير منا أن يشهدوا، عندما يشعرون بالقلق والإحباط، أنهم يفتحون باب الثلاجة، دون أن تكن لهم رغبة في الأكل، لكي يأكلوا أو يشربوا شيئا ما. بكلمات أخرى: قد يأخذ الأكل والشرب والتبضع وشراء الأشياء في بعض المرات وظيفة مخدر، قرص مهدئ. وهذا الأخير يكون أسهل وله مذاق لذيذ. ثم يضيف: نعرف أن الكثير من الناس تأكل أكثر عندما تقلع عن التدخين. يجدون عذرا عن عدم الإقلاع عن التدخين في كون ذلك يقود إلى السمنة، وهذا من بين الأسباب التي تقود إلى عدم الإقلاع عن التدخين. لماذا؟ لأن نفس الضغط، المتمثل في أخذ الأشياء إلى الفم، في بلع شيء ما بالأكل، أو بالتدخين، أو بالشرب، أو بالتبضع كذلك، يتمظهر هنا.  


يخلص إيريك إلى القول: أنه إذا كان بإمكان المرء في القرن التاسع عشر في أوروبا أن يقول: مات الله. فإنه يجب على المرء أن يقول اليوم: مات الإنسان، لتحيا الأشياء، وليس هناك من مثال على الإنسانية الجديدة خير من فكرة القنبلة النيترونية، ماذا سيعمل السلاح النيتروني؟ سيقضي على كل ما هو حي، وتبقى الأشياء، والمنازل، والطرقات.  

ما الذي استجد على الإنسان بين الأمس واليوم، نقصد بذلك ما يخص الاستهلاك وحاجات الإنسان ودوافعه، وتحديدا في مجتمع المدينة؟ يرى الدكتور متعب جاسم، أنه نظرا لتزايد عدد المحركات والمثيرات وعلى الأخص في المجتمع الصناعي المعاصر فإن الفرد يمر بالعديد من المواقف الاجتماعية التي تفرض عليه أن يتعامل مع عدد أكبر من المحركات والدوافع والحاجات. وفي هذا الوسط من التعقيدات والتعدد في المحركات والوسائل التي تتبعها نحو تحقيق تلك الرغبات والحاجات، فإنه يجعل من الصعب الحكم على الغاية التي يسعى الإنسان أو الوجهة التي يمكنه الوصول إليها.

إن الرغبات تشد الإنسان إلى مزيدا من الرغبات، وتعدد الوسائل وتنوعها يجر الإنسان إلى المزيد من الإحساس بفقره، مما يشكل طفرة في الدوافع، وهذا تمام ما تعاني منه مجتمعات المدينة على وجه التحديد، أصبح إنسان المدينة إبرة في كومة الدوافع والحاجات والرغبات التي لا سبيل لتحقيقها ولا سبيل لأن تنتهي.