تسلّم سليمان ـ عليه السلام ـ قيادة الدولة القوية التي أسست على الإيمان والتوحيد وتقوى الله تعالى، وآتاه الله سبحانه وتعالى الملْك الواسع والسلطان العظيم بحيث لم يؤت أحد مثلما أوتي، ولكنه أعطى قبل ذلك عطاء أعظم وأكرم؛ هيأه لأن يكون شخصية فريدة متميزة في التاريخ، لقد أعطي النبوة، ومنح العلم وأوتي الحكمة، وذلك مثلما أعطي أبوه من قبل.
ونتيجة للتوفيق الرباني والمنهج الرشيد الذي سار عليه سليمان فقد ظهرت في عهده ثمرات نهضوية، وتفوّق حضاري في مجالات إنسانية كثيرة، أهمها:

1- النهضة العلمية:

وهي كالأساس بالبنية لكل ما ترى من أنواع النهضة يقول سليمان واصفاً نفسه وجنده ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ(٤٢)﴾ [النمل: 42].
وانظر إلى التفوق العلمي فقد كان متقدماً، أشارت إليه هذه الآية الكريمة: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ(٤٠)﴾ [النمل: 40]. 
فكم من قدرات وطاقات هائلة وصل إليها ذلك المشروع بنهضته العلمية. (القصص القرآني أهدافه وخصائصه، ص193).

2- النهضة الإعلامية:

لا أحد يغفل قيمة الإعلام ودوره في أي نهضة، ومن أهم وسائلها الإعلام وقد جاءت الإشارة في قوله تعالى: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ(٢٨)﴾ [النمل: 28]، إلى أهمية استثمار العمل الإعلامي والتواصل الإعلامي، فقد حقق نجاحات باهرة وأهداف خالدة.


3- النهضة العمرانية: 

وهذا من قوله تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ  اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا  وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ(١٣)﴾ [سبأ: 13]، وقوله سبحانه: ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(٣٧)﴾ [ص: 37]؛ وهي عنوان تقدم أي حضارة ونجاحها.


4- نهضة المواصلات والاتصالات:

وتظهر في سرعة نقل المعلومات كما في قصة الهدهد، وفي سرعة نقل الأشياء كما في قصة نقل عرش ملكة سبأ، وفي استخدام الريح كذلك في التنقل والنقل، وكل ذلك يدل على تطوّر ونهضة في مجالي التواصل (الاتصالات والمواصلات) وهو فن هذا العصر.


5- النهضة العسكرية:

وهي واضحة بينة لا تحتاج دليلاً، ولا توضيح ويكفي فيها وصف سليمان لجنده وثقته بقوته العسكرية: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ(٣٧)﴾ [النمل: 37] وكذلك تظهر في إعداده وتجهيزه لجيشه واستعراضه له واعتنائه بخيله: ﴿ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ(٣١)﴾ [ص: 31].


6- النهضة الصناعية:

وذلك واضح من كثرة صناعات جند سليمان  يقوله سبحانه: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ (١٣)﴾ [سبأ: 13].
فهذه أنواع وأشكال أشرت إليها وشرحتها عند حديثي عن الآيات في سورة سبأ، وهي تنمّ عن نهضة صناعية حقيقة متطورة وراسخة، فبناء المحاريب (أماكن العبادة) التي تمثّل الهندسة المعمارية، وإقامة التماثيل التي تشكل الصناعات الزخرفية، وصناعة الجفان (آنية الطبخ) التي مثلت صناعة أدوات المعيشة، وصناعة القدور الراسيات التي تشير إلى الصناعات المعدنية الثقيلة، واستخدامه للنحاس في الصناعة: ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ﴾[سبأ: 12]؛ كل ذلك يدل على مقدار التطور الصناعي، والنهضة الصناعية في مشروع سليمان عليه السلام.


7- النهضة البحرية:

وذلك باستثمارهم للبحر، وغوصهم فيها، واستخراجهم من كنوزه، يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ ﴾[الأنبياء: 82] ويقول أيضاً سبحانه: ﴿ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(٣٧)﴾ [ص: 37]. (القصص القرآني أهدافه وخصائصه، ص193)


8- النهضة التجارية: 

فكانت ممتدة في البحار بالأساطيل البحرية، وكذلك مع بلاد الشام والعراق ومصر واليمن والعالم القديم، الذي وصلت إليها تجارة دولة سليمان عليه السلام، فقد كان مشروع النهضة الحضاري الذي قاده سليمان من خلال مملكته قائماً على: 

  • توحيد الله عز وجل وهو المنهج الذي صحب البشرية منذ نشأتها وعليه قامت الحياة وعمرت الأرض، ومن أجله خلق الله الجن والإنس: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، ومحاربة الشرك والكفر، والتصدي لأفكاره بالعقل والمنطق وخطاب الأنبياء والمرسلين وتوظيف موكب الرسالات والنبوات في ذلك.

  • اعتبر سليمان عليه السلام العبودية لله أساس القيم كلها، فهي قيمة كليّة شاملة مهيمنة على القيم الأخرى، بل على الوجود الإنساني كله وذلك لأنها تبدأ بالإيمان رباً وإلهاً مشرعاً.

  •  نجح سليمان عليه السلام في تحقيق العبودية لله وعمارة الأرض والعمل بمقومات الاستخلاف فيها، واستخدم سنة الله في عمارتها مستخدماً العقل والفطرة والحواس والمنهج الرباني وحقق مفهوم الاستخلاف في الأرض.

  •  قاد حضارة ربانية تحترم وتسعى لعلوم والمعارف، ونظر إلى العلم باعتباره يشمل جميع المعارف الإنسانية سواء كان مصدرها العقل، واكتشاف قوانين الكون والتعرف على المعادن وخواصها، أو الحس والتجربة، أو كانت بتعليم الوحي والشرع الإلهي، فعمل على تنفيذ أحكام الله بين الناس وفي مملكته المتعددة الأجناس والمخلوقات، وتعامل بنجاح مع سنن الله، كسنة الأخذ بالأسباب، والابتلاء والتمكين والتدافع... إلخ

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من مسودة كتاب: " داود وسليمان عليهما السلام "، للدكتور عليّ محمد الصلابي.