نزلت سورة يوسف على رسول الله ﷺ بعد سورة هود، أيّ في الفترة الحرجة العصيبة من حياة رسول الله ﷺ، حيث توالت الشدائد والنكبات عليه وعلى المؤمنين، وبالأخصّ بعد أن فقد زوجه أم المؤمنين خديجة (رضي الله عنها)، وعمّه أبا طالب الّذي كان له خير نصير وسند قوي ومعين على أذى قريش وصناديدها. وبوفاتهما اشتدّ الأذى والبلاء على رسول الله ﷺ وعلى المؤمنين، حتّى عُرف هذا العام بــ (عام الحزن). 
 في تلك الفترة العصيبة من حياة رسول الله ﷺ وفي ذلك الوقت الّذي كان يعاني فيه الرسول ﷺ والمؤمنون الوحشة والغربة والانقطاع في ظل جاهلية قريش؛ كان الله تعالى ينزّل على نبيّه الكريم هذه السّورة تسلية له وتخفيفاً لآلامه بذكر قصص المرسلين، وكأنّ الله تعالى يقول لنبيّه ﷺ لا تحزن يا محمّد ولا تتفجع لتكذيب قومك وإيذائهم لك، فإنّ بعد الشدّة فرجاً، وإنّ بعد الضيق مخرجاً؛ انظر إلى أخيك يوسف  وتمعن بما حدث له من صنوف البلاد والمحن وألوان الشدائد والنكبات؛ محنة حسد إخوته وكيدهم له، ومحنة رميه في الجبّ، ومحنة تعلّق امرأة العزيز به ومراودته عن نفسه بكل طرق الإغراء، ثمّ محنة السجن، وبعد ذلك العزّ ورغد العيش (قصة يوسف مدرسة أخلاقية، محمد محمود حماد، ص 7). 
ويكتمل الخطاب الرباني في تصبير نبيه ورسوله الكريم بالقول: انظر إليه يا محمد! لمّا صبر يوسف على الأذى في سبيل الله وصبر على الضرّ والبلاء نقله الله من السجن إلى القصر، وجعله عزيزاً في أرض مصر وملّكه خزائنها فكان السيّد المطاع والعزيز المكرّم وهكذا أفعل بأوليائي، ومن صبر على البلاء فلا بدّ أن تُقوّى نفسه على تحمّل البلاء، اقتداء بما سبقك من المرسلين،  قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35]. وقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: 127].
فكما كانت قصة سيدنا يوسف (عليه السلام) سلوى لنبيّنا محمد (صلى الله عليه وسلم) فهي سلوى لشباب المسلمين، في هذا الزمان في نواحٍ متعددة، فهي قدوة لهم في الصبر على المصائب، والصبر على الشهوات، والاعتزاز بالله سبحانه والثقة به عز وجل، وشكره في جميع الأحوال وكل الظروف.

1- كُنْ يوسفيّاً في تقوى الله والخوف من عقابه والصبر على الشهوات

كاد إخوة يوسف (عليه السلام) لأخيهم بإلقائه في غيابة الجب، ثم امتُحن بأن أخذته سيارةٌ باعته كما يباع العبيد وهو ابن الكرماء، حتى أخذه بيت العزيز، واعتنوا به أشد الاعتناء، ففتنت به - لمّا شبَّ وبلغ مبلغ الرجال - امرأة العزيز:
قال الله تعالى في ذلك: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الّتي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إنّه رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنّه لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾:
هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته وصبره عليها، أعظم أجراً لأنّه صبَر اختياراً، مع وجود الدواعي الكثيرة لوجود الفعل، فقدّم محبة الله عليها، وأمّا محنته بإخوته، فصبره ‌صبر ‌اضطرار، بمنزلة الأمراض والمكاره الّتي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إلّا الصبر عليها، طائعا أو كارها، وذلك أنّ يوسف عليه  بقي مكرّماً في بيت العزيز، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك. (تفسير السعدي، ص 501)

  • أ. ﴿وَرَاوَدَتْهُ الّتي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾: إذ أعجبت سيدة البيت زوجة العزيز بجمال يوسف وشبابه ووسامته، وكمال رجولته، ففتنت به، وأحبته وعشقته، وشجّعها على ذلك كونه عليه السلام يعيش قريباً منها في قصرها، فهو في بيتها، يغدو ويروح، أمام ناظرَيها وهو في ريعان شبابه، وقد حباه الله تعالى نضرة وجمالاً وبهاء، لا نظير له في زمانه، حتّى وصفه نبينا ﷺ عندما رآه ليلة الإسراء والمعراج بقوله: " فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن". ولا شك أن دخول الرجل على المرأة واختلاطه بها من أكبر أسباب الافتتان الّتي تؤدي إلى الفواحش والزنى ولهذا حرّم الإسلام اختلاط الرجل بالمرأة وخلوته بها، قال رسول الله ﷺ: "لا يخلون أحدكم بامرأة إلّا مع ذي محرم".

ومرّت الأيام ولعلّها شهور وأعوام على هذه المعركة الصامتة الرهيبة بين: 
- الطهر والعفاف، والحياء المسلح بسلاح الإيمان بالله تعالى من جهة، وبين الشهوات المسعورة المسلّحة بسلاح الفتنة والإغراء، والتمكّن والسّلطان من جهة أخرى، وكلّما ازداد عليه السلام إعراضاً وإباءً، ازدادت إقبالاً عليه وشغفاً به، وازدادت تهتكاً وإغراءً. واستمرت تراوده بخداع رهيب عسى أن توقعه في أسر عبودية الشهوة، ووحل ذلّ الهوى. ثمّ قال تعالى مصوّراً هدفها الأساسيّ من هذه المراودة: (التفسير الموضوعي، 4/154)

  • ب. ﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾: والأبواب هذه كما جرت العادة من القديم، إلى الآن، أن يكون لقصور الأمراء والكبراء عدّة أبواب ونوافذ من الجهات الأربع، أو أن يكون لكلّ قصر أبواب متتابعة بعضها، وراء بعض، خارجة وداخلة ووسطى وقد جرى أبو حيان في البحر على الاحتمال الأول؛ إذ قال: هي أبواب ليست على الترتيب، بل هي جهات مختلفة، وكلها منافذ البيت الّذي كانا فيه، وشأن بيوت الأمراء والكبراء أن يكون القصر الواحد له عدّة أبواب من عدة نواح للدخول والخروج، كما يكون فيها عدد من النوافذ لتبادل الهواء ودخول النور. والإغلاق: إطباق الباب بما يعسر معه فتحه. (مؤتمر تفسير سورة يوسف،1/95)
  • ج. ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾: هما كلمتان فقط اختصرت بهما المراد، وأوضحت فيهما مقصودها بكلّ صراحة، فالموقف وملابساته ومشاهداته يغني عن الخطاب، فكأنه المقصود هو لفت النظر إلى أنّ الاعتماد لم يكن على الخطاب، بل على الملابسات المحيطة به.
  • د. ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إنّه رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنّه لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾: في إظهار قول يوسف (عليه السلام): عناية بإبراز ما تفوّه به في تلك اللحظة مقابل ما تفوهت به، ليتّضح الفرق بين لغة الشهوة والخيانة، ولغة العفة والوفاء، وذكر القولَ دون أيّ تصرف فعليّ كما في حالها هي، لأنّه السّلوك الأسرع في مثل هذه الحالات، ولأن التصرف الفعلي قد لا يكون محموداً إلّا بعد تؤدة وفي سبق كلمة التعوّذ: ﴿معاذ الله﴾ إلى لسانه دليل على عظم صلته بربه وقربه منه، وإلّا فإنه لا يوفّق لمثل هذا كلّ أحد، كما أنّ في ذلك إشارة إلى عظم هذا السوء في نظره عليه السلام جماليات النظم القرآني، ص 32)

إنّ يوسف (عليه السلام) عاذ بمعاذ فانتصر، وعزّ من اعتزّ بالله وانتصر من استنصر بالله، فانتصرت البراءة والطهر على الرذيلة والدناءة والسفاهة. (التفسير الموضوعي، 4/154)

  • ه. ﴿إنّه لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾: وهذه قاعدة ربانيّة ماضيه إلى قيام الساعة ومهما اعتقد الظالم أنّه سيكسب من وراء الظلم منفعة عاجلة أو لذة فانية تافهة، فإن مآله هو الخسران المبين، وما أفلح ظالم أبداً في تاريخ البشريّة ويدخل في سلك الظلمة كلّ من سلك سبيلهم لمن أحسن إليه، فما بالك لو جازى من أحسن إليه بأسوأ الإساءة.

2. كُنْ يوسفيّاً في الالتجاء إلى الله في معالجة الأزمات وتجاوز الصعاب

ابتلى يوسف (عليه السلام) بامرأة العزيز، ودعته إلى نفسها فأبى وقال إني أخاف الله رب العالمين، ثم فُضح أمرها أمام زوجها والملأ، ومع ذلك، ما فترت ولا هدأت عمّا أرادت وخططت، فجمعته بنساء المدينة، وجدّدت طلبها بذلك علانية أمام نسوة المدينة، فاشتدّ الكرب على يوسف (عليه السلام)، ولجأ إلى ربّه يدعو أن ينجّيه من كيدهنّ:

  • أ. قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾:

- ﴿قَالَ رَبِّ﴾: دعوة يوسف (عليه السلام) بقوله هذا: أراد بذلك اعترافاً بفضله سبحانه؛ لأنّه سبحانه من رباه وتعهده، وهو هنا يدعوه باسم الربوبية ألّا يتركه عنه في هذا الموقف (تفسير الشعراوي، 11/6944). 
- ﴿السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾: وبدأ بكلمة السجن الذي هددته به لأنّه هو الحاضر في نفسه في هذا الموقف وأنّه أحبّ إليه مما يدعونه إليه، ثمّ قال: (عليه السلام) أحبّ ولم يقل أهون، ولا أسهل، وإنّما كان فرط بغضه لما تدعوه إليه هو الذي جعل السجن أحبّ إليه، واسم التفضيل في قوله: أحبّ، على غير بابه، لأنّ المعنى ليس أنّه يحبّ هذا وذاك، ولكن السجن أحبّ. وإنّما المعنى أن الحبّ كلّ الحبّ والحالة هذه للسجن (من حديث يوسف وموسى في الذكر الحكيم، ص 98). 
- ﴿مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾: بعدما عفّ بدنه بالتّمتّع، لم يقل: ربّ السجن أحبّ إليّ من الزنا، ولكن قال: ﴿مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾، فعفّ لسانه أيضاً. ولا غرابة من عفّة هذا الطاهر، فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الخليل، لم يجب يوسف (عليه السلام) إلى المنكر الذي دعوه إليه لأنّه عفّ قلبه فعف لسانه. (يوسفيات، ص69)
إنّ يوسف عليه السلام دعا ربه أن يصرف عنه كيدهن، ولم يسأل الله أن يسجن، وكأنه يقول: إنّ السجن أحبّ إليّ من دعوتهن حينما أرغم على شيء ولا أوده. وأما إذا ترك الأمر لاختياري فأنا لن ألبّي لهن دعوة أبداً.
اختار يوسف (عليه السلام) أخفّ الضررين، وأهون الشرين، فالسجن فيه إضرار ببدنه ونفسه، وما يدعونه إليه فيه إضرار بدينه وخلقه، وهو أشدّ ضرراً وأعظم من الأول، ورسم الصديق (عليه السلام) سلوكه هذا، القاعدةَ الشرعيّة الفقهية: (يُختار أهون الشرّين، وأخف الضررين).

  • ب. قال تعالى عن يوسف (عليه السلام): ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف: 33]:

يدعو يوسف (عليه السلام) ربّه قائلاً: يا رب لا يهمني من هذه الفتنة إلا أنت ولا ينجيني من كيد هؤلاء النّسوة إلا أنت، فإنك إن لم تتداركني بحفظك وإن لم تصرف عني كيدهن وإغراءهن وفتنتهن فإني لن أثبت وسوف أصبو إليهن وأميل إلى فتنتهن وأستجيب لدعوتهن؛ وبذلك أقع في الفاحشة، ويصيبني الرجس، وإن فعلت ذلك سأكون من الجاهلين المنحرفين الساقطين. (القصص القرآني، 2/137)
لقد استقبل يوسف عليه السلام الالقاء في البئر بالصبر، واستقبل العبودية بالصبر، واستقبل السجن بالصبر، ولكنه شكا بهذه الدعوة الحارة عندما تعرض لفتنة النّساء.
إن يوسف عليه السلام انتفع بعلمه وكمال عقله، وحكمته فعرف أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فحصل له الإيمان الكامل والتوكل العظيم واليقين المطلق بالله عز وجل، فنزلت عليه السكينة والطمأنينة فأوجبت له الثبات في مواقفه ومراحل حياته فكان بالله وحياته لله وفي سبيل الله. وفي هذا الموقف نرصد شدة تضرعه وانكساره واستجابة الله السريعة له قال تعالى:

  • ج. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يوسف: 34]:

أُجيبت استغاثة يوسف عليه السلام سريعاً، وعبّر عن الاسراع بنجدته بالفاء الدّالة على التعقيب وهذا هو قانون الله تعالى وسنته في أصفيائه؛ أن يسارع في إجابة مطلبهم لأنهم يسارعون في عبادته وطاعته وفعل الخيرات والإحسان. ولا يفهم من السياق القرآني أنّ الاستجابة كانت بإدخال يوسف السجن. ولكن الاستجابة كانت لصرف سوء وكيد ومحاولات الاستمالة؛ ولذلك فإنّ النص الكريم فصل بين هذه الآية وتاليتها ب (ثم) المفيدة للتراخي لا من الزمن فقط وإنما التراخي المهم لسلامة فهمنا للنصوص حتى لانقع في الخلط. 


3- كُنْ يوسفيّاً في تطلب إظهار الحقائق للناس مع عزّة النفس والاستغناء بالله عزّ وجلّ

بعدما لبث يوسف (عليه السلام) بضع سنين بأمر ممّن تبيّن لهم براءته وعفّته، ومرّت السنين، قدّر الله سبحانه أن يصل خبر يوسف المسجون ظلما، فأرسل الملك في طلب يوسف عليه السلام ليعبّر له رؤياه، فأبى إلا أن يسأل الملك عن خبر النسوة اللاتي كادوا له مع امرأة العزيز:

  • أ.  ﴿قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾:

- ﴿ارْجِعْ﴾ ولم يقل عُد، فلفظ (ارجع) دلّ على المعنى الخاص الدقيق به، أي: لا تعد إليه خالي الوفاض بل بما سأحملّك به، وليبقى احتمال تكرار الرّجع بيني وبين الملك غير مغلق. 
- ﴿ إِلَى رَبِّكَ﴾: وجاء بلفظ الرب للدلالة على أن الرسول كان من فتيان الملك وللدلالة على جواز استعمال اللفظ بين الناس على معانيه المتعارفة بينهم، فالربّ هو السيد المالك لعبيده في المجتمع المنتشر فيه الرق، ورب البيت هو صاحبه وراعي من فيه.
-﴿فَاسْأَلْهُ﴾ أي: ارجع إلى الملك برسالة مني جواباً لطلبه. وهذا من حكمة يوسف وحسن سياسته وعزة نفسه. (يوسف أيها الصيق، السقا، ص265)
-﴿مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ أي: ما خبرهن في هذا الأمر؟ واختار  واقعة تقطيع الأيدي من بين وقائع القصة لأنها أعجب الوقائع وأغربها وأكثرها إثارة للسامع فسيتقصى لزوماً الحوادث المتصلة بها والأسباب المؤدية إليها. وتقييد الصورة بالموصول وصلته ﴿اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾، لأجل تحديد أدق حتى تقصر المسألة عليهن وحدهن ومن أجل الإشعار بشيوع هذه الصفة فيهن حتى أصبحن يعرفن بها. ولم يذكر امرأة العزيز لأن لها وللعزيز عليه فضلاً فما ذكر كلاماً يخصصها ولم يطلق للسانه العنان بكلمات يجرح فيها العزيز وامرأته رغم أنه صاحب حق ومظلوم. (جماليات النظم القرآني، ص108)

  • ب. ﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾:

إن الناس لا يعرفون حقيقة قضية يوسف، وقصته مع امرأة العزيز، ومع نسوة المدينة، لقد شوّه (الإعلام الرسمي) الذي يشرف عليه المتنفذون سمعة يوسف وقدّمه للناس بصورة الظالم المجرم الذي لم يحسن إلى العزيز الذي أحسن إليه، وفتح له بيته، فقام بمراودة امرأته وأراد انتهاك عرضها والاعتداء عليها، ولو لم تدفعه هي وتدافع عن عرضها لنال منها، فعل ذلك وهو ع بدُها ورقيقها، وقد عوقب لهذه الجريمة الأخلاقية البشعة بالسجن جزاءً على سوء فعله وهذا قد مضى عليه في السجن بضع سنين. 


4-  كُنْ يوسفيّاً في العفو والصفح والتجاوز عن المسيئين

مكّن الله ليوسف في الأرض بعد ما مر بصنوف المحن وألوان الابتلاءات، وقدر الله سبحانه وتعالى أن يأتي إخوته الذين كادوا له وظلموه راغبين طالبي المعونة والطعام والشراب، فعرفهم يوسف وهم له منكرون، ثم استطاع بحيلة منه أن يأخذ أخاهم الأصغر ليمهّد للقاء أهله جميعاً، ويخبرهم عن الحقيقة الغائبة عنهم:
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا  إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ۝ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ۝ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ  قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي  قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا  إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ۝ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ۝ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ  يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ  وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
وعفو يوسف عليه السلام في مثل هذا الموقف وجده درس من أعظم الدروس، إنه عظة وعبرة لأصحاب الأنفس الموتورة والأحقاد المستورة، وما نالهم من الأذى معشار ما نال يوسف عليه السلام. انظروا إلى العزيز في ساعة الاقتدار ومن آذاه في موقف الانكار، وفي إمكانه أن يأخذه بذنبه أخذ الجبابرة، فإذا به يعرض حتى عن اللوم والتوبيخ. (آيات للسائلين، ص 347)

  • أ. ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾: أي لا ملامة ولا توبيخ ولا عتاب ولا أدنى مؤاخذة مني عليكم. ولن أذكر لكم منذ اليوم ذنباً، فالماضي قد مضى بما فيه، وقد مسح لقاء اليوم شقاء السنين الطويلة، وعناء المحن الماضية الكثيرة، ولم يكتف  بهذا، بل توجه إلى الله تعالى يسأله المغفرة لهم والستر عليهم:
  • ب.  ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾: وهكذا نرى أن يوسف يرجع الأمر إلى الله ويرد الفضل إليه في كل مناسبة، فهو صاحب الشأن والأمر كله.

وهكذا سكت يوسف – وهو صاحب الحق في ظاهر الأمر – عن التصريح بمغفرته لإخوته وضمّنها في قلبه، إعلاء لأمر الله، وأدباً معه، وتجرداً من العبد أمام الله عز وجل صاحب المنّة والإحسان العظيم. (يوسف أيها الصديق، ص 393)

  • ج. ﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾: وهذا فهم بحقيقة أن أي رحمة في العالم أو من أي أحد، إنما هي مستمدة من رحمته سبحانه وتعالى. وقد قال يوسف عليه السلام ذلك وهو واثق من إجابة دعوته لأنّه قد غفر لهم خطأهم القديم وعفا عنهم والله أولى منا بالعفو عنهم. وهذا موقف يوسف (عليه السلام) القائم على العفو الصفح والتوجه إلى الله بالدعاء لإخوانه بأن يغفر لهم ويرحمهم جميعاً، وكان على يقين بأن الله رحمي بعباده، ومن رحمته أنه يفغر الذنب ويقبل التوبة ويزيد من فضله إحساناً.

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: "النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام"، للدكتور علي محمد الصلابي.