علماء المسلمين هم حملةُ رسالة الحق والهداية للإنسانية، والدعاة إلى توحيد الله تعالى وإفراد العبودية له، وهم الضياء في الظلماء، وحجة الله تعالى في أرضه، وقلاع الحق أمام مكائد أهل الباطل وأعوانهم، وهم أعلم بما يُصلِح أحوال الناس في دنياهم وآخرتهم؛ لعِلمهم، وتفقههم بالدين، ولا يكتمون الحق على الناس استنكافاً أو تكبراً أو استغناءً، ولذلك عدَّهم الله تعالى أئمة عارفين يُهتدى بهم إلى الصراط المستقيم، وأَمَرَ عباده المؤمنين بسؤالهم أمور الدين والدنيا: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24)، وكذلك في آيٍ كثيرة في القرآن منها قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل: 43)، وفي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ (النساء: 83) (بيان مكانة العلماء والتأدبة معهم، 20/09/2010). 

وفي زمان هان على بعض أبناء الأمة الإسلامية الإساءة والطعن بأئمة وعلماء الأمة الإسلامية، والتشهير بهم، والافتراء عليهم، والنيل من الدعاة والفقهاء المجتهدين، والأئمة والشيوخ العاملين، واتهامهم زوراً وبهتاناً في القول والعمل، في مقابل هجمة شعواء من أعداء الإسلام وأعوان الشيطان على كتاب الله العزيز، والإساءة للرسول الكريم ﷺ، وجب كتابة هذه التدوينة لتبيان فضل أهل العلم، وكيف خصّهم الله تبارك وتعالى بالمنزلة الرفيعة، والوراثة في الأرض، وقيادة مواكب الهداية بعد انقطاع الرسل بوفاة رسول العالمين وخاتم النبيين والمرسلين محمد ﷺ. فالواجب نصرتهم، وصون عِلمهم، وحفظ آثارهم، وردّ جميلهم، والوفاء بحقّهم على الأمة، وذلك في نشر علمهم، وفي دفع ما من شأنه أن يَخدش كرامتهم أو ينتقص من مكانتهم، فندفع الشبهة بالدليل، والظنَّ باليقين، والجهلَ بالعلم، محتسبين الأجر والمثوبة على الله تعالى بعد التوكل عليه، والأخذ بالأسباب في هذا الأمر.

ونحن إذ نُعطي لعلماء الأمة حقهم، ونُنزِلهم قدرهم، فإننا لانقول بعِصمتهم، ولا نُقدس أعيانهم أو نتعصب لأقوالهم، ونعلم يقيناً بأنهم يُصيبون ويخطئون، يسددون ويقاربون، ويَعلمون فناً، وتغيب عنهم فنون، ولكن لا نسمح أن يكون ذلك مبرراً للخوض في أَعراضهم، وغمطهم حقوقهم، والإساءة لهم على كل شاردة وواردة.  

1/فضل علماء المسلمين ومكانتهم  

فضل علماء المسلمين وأثرهم كبيرين، وقد جاءت نصوص القرآن والسنة متواترة تُبين ذلك، فهم من شهود الله سبحانه وتعالى على أعظم مشهود به؛ أيّ توحيد الله تعالى، وإخلاص العبودية له، وتجلى ذلك في قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل عمران: 18)  

وقد قال الإمام القرطبي (رحمه الله): في هذه الآية دليل على مكانة العلم وفضل العلماء، وقد رفعهم الله لمكانة يستحقُّونها في قوله: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (المجادلة: 11). 

علماء المسلمين العاملين في الدين هم ورثة الأنبياء والرسل، وحرّاس العقيدة الإسلامية من الابتداع والتزييف والغواية، وسبب عصمة الأمة من الضلال، ومصابيح الهداية في ظل الفتن، فقد روى إبراهيم بن عبد الرحمن العذري (رضي الله عنه) أنَّ رسول الله ﷺ قال: "يحمل هذا العلمَ من كل خلفٍ عدولُه ينفون عنه تحريف الغالينَ، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين" (تاريخ دمشق، ابن عساكر، 7/39). وجاء عن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) قول رسول الله ﷺ: "ليس منَّا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه" (رواه أحمد، 6733).

وعن الإمام الشعبي (رحمه الله) قال: "صلى زيد بن ثابت على جنازة، ثم قربت له بغلة ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ بركابه فقال له زيد: خلَّ عنك يا ابن عمّ رسول الله ﷺ. فقال ابن عباس: هكذا يفعل بالعلماء والكبراء. وفي رواية عنه قال: أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت فقال: أتمسك لي وأنت ابن عم رسول الله ﷺ؟ قال: إنا هكذا نصنع بالعلماء." 

وقال الإمام الحسن البصري (رحمه الله): "موت العالم ثُلّمة في الإسلام، لا يسدُّها شيء ما اختلف الليل والنهار". 

وقد قيل لعبد الله بن المبارك (رحمه الله): هذه الأحاديث مصنوعة!؟ فقال: يعيش لها الجهابذة. وذكر ابن عُليَّة (رحمه الله) بأن الخليفة العباسي هارون الرشيد أخذ زنديقاً، فأمر بضرب عُنقه، فقال له الزنديق: لمَ تضرب عنقي؟ قال له: أُريح العباد منك. قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله ﷺ كلها ما فيها حرف نطق به!؟ فقال الرشيد: فأين أنت يا عدو الله من إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها نخلاً، فيُخرّجونها حرفاً حرفاً.

وقال العلامة ابن القيم الجوزي (رحمه الله): "العلماء هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب". 

علماء المسلمين هم الذين خصهم الله تعالى بالمنزلة، وأراد الله تعالى بهم خيراً، ففقهم في الدين؛ حفظوا قواعد الإسلام والفروع والأصول في صُدورهم، والتمسوا مرضاة الله تعالى بسلوكهم سبيل العلم، فانبروا حماةً للدين الإسلامي، وحفظةً لآثاره؛ يحملون للناس عبر القرون الكتاب والسنة، وفهم أحكامهما على الوجه الذي يرتضيه الله ورسوله، فكانوا الدواء للداء، وكم من تائه قد هدوه بفضل الله، وهم أُنس المجالس، وأعداء الشيطان بحقٍّ، حيث ظلت وجوههم مستبشرة بتبليغهم رسالة رسول الله ﷺ، وكتاب الله في صدورهم. وإنهم لا يرون لأنفسهم حالاً، ولا مقاماً، ويكرهون التزكية والمدح، لا يُفتون إلا بعلم وتحقق، وهم الناصحون للأمة، فملأ هؤلاء البررةُ والسادة الأجلّاء بطونَ كتب التراجم والسير والتاريخ في أقوالهم وأفعالهم ومآثرهم وفضلهم. (دفاعاً عن علمائنا، محمد صالح المنجد، 15/07/1427).

ويصف أمير المؤمنين والخليفة الراشدي علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) صنوف الناس، وفضل أهل العلم في قوله:  

النـاسُ مِـن جِهَـةِ التِـمثالِ أَكفاءُ ... أَبــــــوهُـــــمُ آدَمُ وَالأُمُ حَـــــوّاءُ

فَـإِن يَـكُـن لَهُـمُ مِـن أَصـلِهِـم شَـرَفٌ... يُــفـاخِـرونَ بِهِ فَـالطـيـنُ وَالمـاءُ

ما الفَضلُ إِلا لِأَهلِ العِلمِ إِنَّهُمُ ... عَـلى الهُـدى لِمَـنِ اِسـتَهدى أَدِلّاءُ

وَقَـدرُ كُـلِّ اِمـرِئٍ مـا كـاَن يُـحسِنُهُ.... وَلِلرِجـالِ عَـلى الأَفـعـالِ أسـمـاءُ

وَضِـدُّ كُـلِّ اِمـرِئٍ مـا كـانَ يَـجـهَـلُهُ... وَالجـاهِـلونَ لِأَهـلِ العِـلمِ أَعداءُ

فَـفُـز بِـعِـلمٍ وَلا تَـطـلُب بِهِ بَدَلاً... فَالناسُ مَوتى وَأهُلُ العِلمِ أَحياءُ. 

2/التهجم على علماء المسلمين (أغراض وغايات)  

يقول الشيخ يوسف القرضاوي (رحمه الله): الذين اجتهدوا وجدّدوا لهذه الأمّة أمر دينها، كانوا أئمةً في العلم والمعرفة، أئمةً في الإخلاص والتجرد، أئمةً في الورع والتقوى، أئمةً في العدل والإنصاف. وكان من إنصافهم: ألّا يجاملوا أقرب الناس لهم وأحبهم إليهم؛ حتى قال ابن القيم فيما خالف فيه الشيخ أبا إسماعيل الهروي: شيخ الإسلام حبيبٌ إلينا، ولكن الحق أحب إلينا منه! 

كثرت غايات وأهداف أصحاب تلك الهجمات المغالية على علماء المسلمين بين فكرية ونفسية واجتماعية وسياسية، وهم: 

فريق أول: هم أعداء لله تعالى وأعوان الشيطان، وهم قصدوا بحملتهم إسقاط القدوات الحسنة، وهز هيبة العلماء في أذهان أبناء الأمة، وتشويه المرجعية الشرعيّة للمسلمين من خلال الكيد للعلماء، والإساءة لهم.  

فريق ثانٍ: أشخاص لديهم انتماءات فكرية ومذهبية تحرض على أئمة وعلماء الإسلام باحثين عن هوية بديلة عن الهوية الإسلامية، ويسمون أنفسهم حداثيين ويعتبرون أن ما هو موجود في واقع الأمة كهنوت ديني يعيق التنمية والنهوض الحضاري!!

فريق ثالث: من أهل الهوى؛ يحسد بعض أهل العلم، ويحقد عليهم، ويشنع بسيرتهم.

فريق رابع: وافق أهواء السياسة في التضييق على العلماء العاملين، وتحديد أدوارهم وعملهم.  

الفريق الخامس: وهم الذين أخاطبهم في مقالي هذا أكثر من غيرهم - هم بسطاء الناس وقاعدة الأمة الإسلامية، والذين كانوا ضحية لتلك المكائد بالعلماء، وباتوا لقمة سائغة للحاقدين وأهل الزيغ، وأعوان الشياطين في التشويه والنقل والتزوير وبث الشائعات بقصد أو بغير قصد. (الطعن في العلماء،26/05/2022).

3/علماءُ وأئمةُ وفقهاءُ عاملينَ تعرضوا للطعنِ والتشويهِ والمحنْ 

اتهم المشككون وأهل الإرجاف والجهلة، علماء المسلمين وأئمتهم ودعاتهم باتهامات كثيرة، وكادوا لهم كيداً عظيماً، حتّى طال ظُلمُهم الإساءةَ للرسول الكريم ﷺ، والخلفاء الراشدين والصحابة الأبرار، وآل بيت رسول الله ﷺ الأطهار. وفي العصور اللاحقة كثرت الإساءات لرموز الأمة وعلمائها الأجلاء، فاستمرّت – بغير كلل ولا ملل - حملات التشويه الممنهجة، والطعن بالعلماء منذ بزوغ الفجر الإسلامي الأول وحتى يوم الناس هذا.

1.نماذج من العصور المتقدمة (من القرن الثاني إلى القرن الثامن الهجري)

لاقى علماء المسلمين في العصور الإسلامية الأولى اتهامات في عقيدتهم في التشيع حيناً، وتحريف الأحاديث النبوية حيناً، والخروج على السلطان أحياناً، والضلال والتكفير في بعض الأحيان، ومن أمثال العلماء والأئمة والفقهاء الذين تعرضوا للاتهام والافتراء والتشويه على سبيل المثال لا الحصر: 

الإمام أبو حنيفة النعمان (رحمه الله)

هناك من شكَّك في عقيدة أبي حنيفة النعمان الكوفي، وهو إمام عظيم من أئمة المسلمين، وشيخ أهل الرأي، واتفق أهل العلم على إمامته ورِفعة قدره، وقال عنه علي بن عاصم: لو وُزن علم أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم، وقال عنه عبد الله بن مبارك: أبو حنيفة أفقه الناس. وقال الخُرَيْبِيُّ: ما يقع في أبي حنيفة إلا حاسد أو جاهل. وقال الحافظ ابن كثير: سئل أبو حنيفة: من أي الأصناف أنت؟ فقال: ممن لا يسبُّ السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحداً من أهل القبلة بذنب. (البداية والنهاية، ابن كثير، 4/336).

الإمام مالك بن أنس (رحمه الله)

اتهم بعض أهل الزيغ والنفوس الدنيئة وأعداء الأمة، إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس (رضي الله عنه) بالكذب على لسان رسول الله ﷺ، ووضع الأحاديث النبوية، ويستدلون بذلك أنَّه كان يجتهد في نسبة الأحاديث إلى النبي الكريم، وهدفهم الطعن والتشكيك بالسنة النبوية، فكيف لإمام دار الهجرة ممن اشتهرت إمامته واستفاضت عدالته، وهو على بصيرة وحكمة بالغتَين، فضلاً عن علو منزلته وتقواه وورعه ونزاهته أن يكون كذاباً!؟ 

وقال عنه الإمام أبو عبد الرحمن النسائي (رحمه الله): أمناء الله على علم رسول الله ﷺ ثلاثة: شُعبة بن الحجَّاج، ويحيى بن سعيد القطان، ومالك بن أنس (شذرات الذهب في أخبار من ذهب، عبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي، 1406ه/ 1986م، ج2/ ص 270). وقال عنه تلميذه الإمام الشافعي: "لم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم لحفظه وإتقانه وصيانته، وقد جعلت مالكاً حجة بيني وبين الله عز وجل". وقد كان الإمام مالك ينتقي الأحاديث انتقاء المتعرّف على رواتها، ولقد عني عناية شديدة بدراسة رجال الحديث ولا يأخذ الحديث عن سفيه أو صاحب بدعة، أو حتى عن صالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يُحدث به، وقد مكث في جمع الموطأ أربعين عاماً يُهذبه وينقحه (مشروع الحصن، شبهات حول السنة، 12/10/2020).

الإمام محمد بن إدريس الشافعي (رحمه الله)

أحد أبرز علماء وأئمة أهل السنة والجماعة الإمام محمد بن إدريس الشافعي (رحمه الله)، والذي اتهم بأنه كان شيعياً امتدح آل البيت وتحدث بحبّهم طويلاً، وأنّه كان منجماً، وأنه كان يضع الأحاديث على لسان رسول الله ﷺ، مستدلين بما أورده الرازي (رحمه الله) في كتابه "مناقب الشافعي" حول معرفته بالنجوم، ولكن كيف لأحد العلماء الذي قضى حياته يعمل بالسنة الصحيحة أن تُوجه إليه هذه التهمة الباطلة؟! وقال الإمام الذهبي: "من زعم أنَّ الشافعي يتشيّع فهو مفتر لا يدري ما يقول، فإذا كان يُحب آل البيت ويمدحهم بشعره فهذا لا يوجب القدح فيه بل يوجب أعظم أنواع المدح"، ويقول الإمام مالك بن أنس (رحمه الله): ما أتاني قرشي أفهم من هذا الفتى، وقال يحيى بن سعيد القطان (رحمه الله): أنا أدعو للشافعيّ في صلاتي منذ أربعين سنة، وقال محمد بن الحسن: إن تكلم أصحاب الحديث يوماً فبلسان الشافعي (الإمام الشافعي ودوره التجديدي في عصره، المعتز بالله الكامل، 18/11/2020). وقال الشافعي لتلميذه المزني: "إذا صح لكم الحديث فخذوا به، ودعوا قولي" (كيف ولماذا التشكيك في السنة، أحمد بن عبد الرحمن، 77). وكان الإمام الشافعي حِصناً منيعاً ضد المبتدعة والكذابين ومنكري السنة، ولم يكن يتساهل مع كبار الفقهاء والمحدثين في أهون الأخطاء وأيسرها عبر المناظرات والأسئلة الفقهية والدروس في المسجد. 

الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله)

كان ممن تعرّض للقدح والإساءة على أيدي المعتزلة، وبعض الحُسّاد والمبغضين؛ هو الإمام الحجة أحمد بن حنبل (رحمه الله)، وهو أبرز علماء الفقه والحديث، وأكثرهم زهداً في الدنيا، وقد تحمل الضرب والسجن والإقامة الجبرية بسبب موقفه من التعصب والآراء المنحرفة والدفاع عن منهج السلف الصالح، وانتصاره لأهل السنة والجماعة، وكان حسب الروايات المتعددة يُصلي في يوم وليلة مئة وخمسين ركعة وقد قرب من الثمانين، وكان له ختمة في كل سبع ليالٍ، ولديه الكثير من المؤلفات النافعة في الفقه والتفسير وعلوم القرآن، وعانى من محنة قاسية بعد قول المعتزلة بخلق القرآن أيام الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد، وطال حبسه 28 شهراً، وفرّج الله كربه حين تولى الخليفة العباسي المتوكّل على الله السلطة.   

فالبيئة العلمية التي عاشها الأئمة الكرام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة النعمان (رحمهم الله ورضي عنهم جميعاً)، وسائر الفقهاء والمحدثين والحُفاظ، حفظت لها السنة المشرفة، ونبذت كلَّ محاولات الكذب والتزوير والتحايل على مرِّ الأزمان وحتى يومنا هذا. 

الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (رحمه الله)

اتُهم عمدة المحدثين وإمام الحفاظ محمد بن إسماعيل البخاري (رحمه الله) بعدم الأمانة في كتابة الأحاديث النبوية، وأنَّه مدلس في إخراج الأحاديث حسب ما يدَّعي كارهوه وخاصة من الشيعة، وهو الذي قال فيه الإمام النووي (رحمه الله): "اتفق العلماء على أنَّ أصح الكتب بعد القرآن الكريم الصحيحان: صحيح البخاري وصحيح مسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول". وكما قال الإمام البخاري في أسفاره: "كتبت عن ألف وثمانين نفساً ليس فيهم إلا صاحب حديث". فكانوا كلهم ثقات في أعلى درجات الحفظ والضبط والأمانة عن مثلهم إلى أن يصل إلى الصحابة عن رسول الله ﷺ، ولا يوجد كتاب لدى المسلمين نال الحظوة والسمعة عند جمهور الفقهاء وأهل العلم مثل صحيح البخاري، وأقرَّ علماء الأمة وأئمة الدين بهذا على مر العصور والأزمان، وصار ذلك إجماعاً بينهم.

الإمام أبو حامد الغزالي (رحمه الله)

اتهم المستشرقون وبعض أعداء الإسلام، ومن سار على نهجهم عن جهل أو كيد، حجةَ الإسلام الإمام أبا حامد الغزالي (رحمه الله)، وهو أحد أكبر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري، واعتبروه سبباً من أسباب انحدار العلوم العقلية والفلسفة في الحضارة الإسلامية، وأنّه أحد أسبابها تخلفها اللاحق، وبأنه حرّم الرياضيات، وهو في كتابه "المنقذ من الضلال" يُبين أنّه لا يجحد حق العلوم العقلية - وخاصة الرياضيات والهندسة - ولكنه ينتقد الناس الذين أُعجبوا بدقتها المتناهية، فعظّموها واشتغلوا بها أكثر من اشتغالهم بعلوم الشريعة، ومعرفة الخالق، فغلوا فيها إلى حد الافتنان، وهو ما يُؤثر على دينهم وعقيدتهم. وقد كتبتُ عنه مقالاً في السابق، وقلت في مقدمته: "عالمٌ نحرير قلّ نظيره في تاريخ الإسلام، وجهبذ من جهابذة العلماء، وكان له منهج إصلاحي متفرّد من خلال تشخيصه لأمراض المجتمع، ووضع مناهج التعليم، وبناء العقيدة، ومحاربة التيارات المنحرفة، وإصلاح الفكر" (أبو حامد الغزالي حجة الإسلام ونابغة الأعلام في ذلك الزمان، علي محمد الصلابي، الجزيرة نت، 7/7/2019). 

الإمام يحيى بن شرف النووي (رحمه الله)

اتهم الإمام النووي (رحمه الله) بأنَّه أشعري في الأسماء والصفات، وصوفي في كتابه "بستان العارفين"، وله أغلاط في الصفات سلك فيها مسلك المؤوّلين. وهو الذي قال فيه الإمام الذهبي: الشيخ الإمام القدوة، الحافظ الزاهد، العابد الفقيه، المجتهد الرباني، شيخ الإسلام، حسنة الأنام". وقال عنه ابن كثير في البداية والنهاية: "الشيخ الإمام العالم العلامة، شيخ المذهب، وكبير الفقهاء في زمانه، ومن حاز قصبة السبق دون أقرانه" (الإمام النووي رحمه الله... من كبار علماء أهل السنة والجماعة لا ينكر فضله منصف وذو علم، علي محمد الصلابي، 4/8/2023).

الإمام ابن تيمية (رحمه الله) 

يروق لكثير ممن يُسمّون أنفسهم (تنويرين) و(مثقفين) ومن المتصوفة والشيعة اختزالُ مشكلة التشدّد الديني والتكفير واستحلال الدماء في شخص الإمام ابن تيمية (ت: 728ه/ 1328م)، الفقيهِ الحنبلي الذي عاش في الشام في القرن الثامن الهجري، وهؤلاء كلهم لم يقرأوا البيئة السياسية والفكرية التي عاش فيها الرجل، وكان يصدر فيها بعض فتاويه، وكان عصره مرحلة صراعات بين المماليك فيما بينهم، ومخاطر الصليبيين والتتار في الشام والعراق. 

ولقد زادت مصنفات ومؤلفات ابن تيمية عن (300) عنوان ما بين رسائل مختصرة ومجلدات ضخمة، تتسم بالوضوح وكثرة الاستشهاد بالقرآن والسنة النبوية، وما نقله عن الصحابة والتابعين. قال عنه الإمام الذهبي في معجم شيوخه: "هو شيخنا، وشيخ الإسلام، وفريد العصر؛ علماً ومعرفة وشجاعة وذكاء، وتنويراً إلهياً وكرماً ونصحاً للأمة، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، سمع الحديث وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته، ونظر في الرجال، والطبقات، وحصَّل ما لم يُحصّله غيره" (عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية وثناء الأئمة عليه وموقف ابن حجر منه، محمد صالح المنجد، 4/2/2007). 

2.نماذج من العصور المتأخرة (القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس عشر الهجري)

إنَّ الهجمة على علماء المسلمين – كما نوّهت عليه - لم تكن قديمة أيام الصحابة والتابعين والسلف الصالح والمحدثين والفقهاء في العصور الإسلامية المبكرة فحسب، وإنما حملة التشنيع والإساءة لا تكاد تتوقف يوماً في استهداف رموز الأمة، ومحاولة هدم مكانة تلك القدوات والنيل منها، وفي تاريخنا الحديث أمثلة كثيرة، ومن بينهم: 

الإمام محمد الغزالي (رحمه الله)

اتّهم الشيخ العلّامة محمد الغزالي (رحمه الله) بأنه سار في كتابه "فقه السيرة" على منهج المعتزلة في وضع الأحاديث ومخالفة علماء الحديث، فهو بشطبةِ قلم يضرب على حديث متفق على صحته، وبصيحة من حنجرته يصحح حديثاً لا يصح عند علماء الحديث، واتهموه بأنه من أهل الأهواء، وهو رحمه الله العلامة الكبير الذي قال عنه الشيخ أبو الحسن الندوي (رحمه الله): "أحد رموز النهضة الدينية في مصر"، وقال فيه الشيخ القرضاوي (رحمه الله): "قائد كبير من قادة الفكر والتوجيه، وإمام من أئمة الفكر والدعوة والتجديد... بل إننا أمام مدرسة متكاملة من مدارس الدعوة والفكر والإصلاح لها طابعها وأسلوبها، ولها مذاقها الخاص..." (محمد الغزالي.. إمام الأئمة، راغب السرجاني، 19/06/2014). 

الإمام محمد متولي الشعراوي (رحمه الله)

كتبت في مقالٍ سابق لي في الرد على أَسرى الشهوات وأهل الأراجيف والافتراءات بعد الإساءة للشيخ الشعراوي (رحمه الله) على وسائل التواصل الاجتماعي، واتهامه بالتطرف وداعية لتشويه الهوية المصرية، وأنه مروج للعنف ضد المرأة والأقباط في مصر، وكان مما ذكرت في المقال بحق الداعية والمفسر الكبير الشيخ الشعراوي (رحمه الله): "حبَّبَ إلي القرآن وتفسيره منذ وعيت على الدنيا، ودخل بَيتنا من أوسع أبوابه، وكان حديث والدي وجدتي -رحمهما الله- يُنصتون إليه باهتمام وإصغاء، ويُثنون على أسلوبه الفريد، وكنت لم أتجاوز العاشرة من عمري… ومع الأيام عرفت من هذا الطود العظيم والجبل الشامخ. 

وقلت: "إنني أستغرب من هذه الهجمة الممنهجة والمقصودة على عالِم جليل ترك للإنسانية ثروة هائلة في الثقافة والأدب وفلسفة الدين والقيم الروحية والمبادئ الإنسانية المستمدة من كتاب الله العزيز". ومما قلت: "الشعراوي لا يهاجمه إلا جاهل أو خصم أو عدو للإسلام". 

و"الشعراوي عالم راسخ وداعية رباني فتح الله له في علم التفسير فهماً متميزاً ودعوةً وأسلوباً، وكتب له قبولاً عظيماً في نفوس المسلمين. ونوَّرَ اللهُ عقولاً وطهر نفوساً بأسلوبه الدعوي الفريد... أبقى الله ذكره وأثره وعلمه إلى يومنا هذا، وعندما تستمع إليه ترى نور الإيمان يشعّ من وجهه الأسمر، ومحبة الله تتدفق من قلبه على لسانه، والخوف منه يظهر على ملامحه (الشعراوي فخر لأم الدنيا والعالم الإسلامي، علي محمد الصلابي، 20/06/2022). 

وقال فيه المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد عمارة (رحمه الله): "إنَّ الشيخ الشعراوي كان واحداً من أعظم الدعاة إلى الإسلام في العصر الذي نعيش فيه، والملكة غير العادية التي تميّز بها، هي التي جعلته يُطلع جمهوره على أسرار جديدة وكثيرة في القرآن الكريم". ونعاه الشيخ القرضاوي (رحمه الله) بالقول: "توفي أستاذنا وشيخنا "رجل القرآن"، وأحد المفسرين الكبار، العالم الرباني، والذوّاقة الإيماني، وأحد المربين الأفذاذ الذين نوّروا العقول والقلوب برحيق الإيمان وعلم الإسلام، وأحد الرجال الذين حملوا لواء الهداية لهذه الأمة في العصر الحديث. وبكل تأكيد، كان الشيخ الشعراوي حقاً ثمرة لثقافته البلاغية التي جعلته يُدرك من أسرار الإعجاز البيانيِّ للقرآن الكريم ما لم يُدركه كثير من المسلمين (الإمام الشعراوي وصغار شانئيه، محمد خاطر، الجزيرة نت، 22/1/2023). 

الشيخ راشد الغنّوشي

ليس ببعيد، تعرض الشيخ الثائر ورجل الفكر الشيخ راشد الغنوشي لحملة تشويهيّة ظالمة لا مراد لها إلا إسقاط ذلك الرمز النضالي الوطني الكبير، وهو الرجل الذي قضى جلَّ عمره في الفكر والدعوة والإصلاح ومقارعة الاستبداد وفي المنافي والسجون وهو في سجنه الآن ولم تنتهِ حملة النقد والهجوم عليه. وكتبت عنه مقالاً في إنصافه وقلت فيه: "يعتبر الأستاذ راشد الغنوشي من أكابر المفكرين والمثقفين الذين ينتمون للأسرة العربية والإسلامية والإنسانية، والذين دافعوا عن القيم الإنسانية كالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية والتعاقد بين الحاكم والمحكوم وحقوق الإنسان وقدم هو وإخوانه تضحيات كبيرة في هذا الطريق الشاق والطويل بين سجون ومنافي ومطارادات واتهامات... ونسي خصومه أن الأفكار لا تموت، والكفاح الصادق محفوظ بحفظ الله له، والقدوات الكبيرة جعلها الخلّاق العليم معالم يهتدي بها أجيال وأجيال، ودول وشعوب وأمم ومجتمعات" (الشيخ راشد الغنوشي... جسد في السجون وفكر عابر للحدود، علي محمد الصلابي، 24/6/2023). 

الشيخ سلمان بن فهد العودة 

من بين علماء المسلمين العاملين والدعاة المجتهدين، والذين كثرت الشائعات والطعن بسيرتهم ومنهجهم الفكري والدعوي الشيخ المفكر والداعية الدكتور سلمان بن فهد العودة، وهو الذي شهد له القاصي والداني بِعلمه، واعتدال رأيه، وصلاح منهجه، وسلامة عقيدته، ووقوفه مع الحق في كل المناسبات، ودعوته للنهوض الحضاري. 

ولقد عايشت بنفسي الشيخ سلمان العودة طالباً محباً وأخاً كريماً في مجالسه العِلمية، ودروسه في المساجد والجامعة، فكان خير من يُؤدي العلم لطلابه بحب وإخلاص وتفاني. وكما لا يختلف عاقل أو منصف، على غزارة علمه واعتدال فكره، وفقهه، وأدبه، وتواضعه، وصفائه الروحي والنفسي مع محاسبة جريئة للنّفس، وهو الذي دخل إلى أعماق قلوب الآلاف من محبيه، وعُرف عنه أمانة القلم وصدق الكلمة والانحياز التام لهوية الأمة وعقيدتها وقِيمها، وانتصر لرفع الحرج وتيسير الأمور على المسلمين في اجتهاداته الفقهية الواسعة (تجربتي مع شيخي سلمان العودة.. ذكريات لا تنسى، علي محمد الصلابي، 20/02/2020). 

علماء ودعاة وشيوخ في الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين

لم تستثن الهجمات المغرضة في الإساءة للدين الإسلامي ورموز الفكر والدعوة والإصلاح أحدَ أبرز مؤسساته، وهو الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين، والذي يُعد من أكبر المؤسسات العُلمائية المعاصرة، فاعتبره البعض ضمن مؤسسات راعية للإرهاب، وامتد الأمر إلى تشويه سمعة أفراده باتّهامات كلها أكاذيب وبهتان وزور، وكذلك تشويه دور العاملين فيه. وإن من يعرف الاتحاد وشيوخه وعلمائه، ويقرأ تاريخه، ومسار عمله الفكري والإصلاحي يدرك قيمته، كما يعرف قدر رجالاته وعملهم في الدعوة، ومحاولاتهم العظيمة للدفاع عن الإسلام ودعوة الناس إليه، وعملهم الدؤوب على تخفيف خطاب الكراهية، وتقريب المسافات بين الشعوب والثقافات، ومواجهة العنصرية والتطرف، وتفعيل المؤتمرات والفعاليات واللقاءات التي من شأنها بناء خطاب إنساني وحضاري قائم على السلام والمصالحة والإصلاح والتنمية. 

فالهجمة التي شنها البعض على الإمام المجدد والعالم الرباني الشيخ يوسف القرضاوي (رحمه الله) دليل على ما يكاد لهذه المؤسسة ولدورها من مكائد ولمكانة هذا العالم الجليل، واتهم بكل ما يُتهم به أهل الفضل وأئمة الحق، وقد ذكرت شهادتي في شيخنا العلامة المجدد الدكتور يوسف القرضاوي (رحمه الله) بأنه "ترجم الإسلام فكراً وسلوكاً وإنحاز للإنسان"، وقلت: "رحل الإمام المتفرد وعلامة الأمة وفقيه العصر ورائد الفكر الوسطي وأحد أبرز أعلام الحركة الإسلامية في عصرنا صاحب مذهب التيسير في الفتوى بعلمٍ، والتبشير في الدعوة بحلم، بعد قرنٍ حافل بخدمة الدين الإسلامي ونشر العلم الصحيح وجمع كلمة المسلمين..". وقلت فيه: "إن الشيخ القرضاوي العنوان الأبرز والأنصع للوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، فهو جمع بين الفكر العلمي الدقيق، المتمثل في شرح وتيسير الفكر الإسلامي للأجيال الجديدة، وبين الترجمة العملية للإسلام في حياتنا المعاصرة" (رَحل علاّمة هذا العصر.. شهادتي وتجربتي مع الإمام المجدد الشيخ يوسف القرضاوي، علي محمد الصلابي، 07/10/2022). 

وقد قال عنه الشاعر الدكتور أنس الدغيم في يوم وفاته: 

شيخُ المواقف ما لانَتْ عريكتُهُ ... في الحقِّ أو ردَّه عن رأيه وَجَلُ

ستٌّ وتسعونَ والهمّاتُ عاليةٌ ... كأنّها في سماءِ الأمّةِ الشُّعَلُ. 

وقد طالت حملات التشويه والافتراء على علماء ودعاة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الكرام، وعلى رأسهم رئيس الاتحاد (السابق) الشيخ الدكتور أحمد الريسوني، والشيخ الدكتور علي القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي، والشيخ الدكتور عصام الدين البشير، والشيخ عبد المجيد الزنداني، والشيخ محمد الحسن ولد الددو، والشيخ عبد الحي يوسف، وغيرهم علماء ودعاة أفاضل في الاتحاد العالمي (حفظهم الله جميعاً). 

وهناك عدد من علماء من الأمة الإسلامية تعرّضوا لموجة ظالمة من التشويه والاتهامات والافتراء والأكاذيب، فقابلوها بالبيان الصادق، والحجج والأدلة الدامغة، والمناظرات العلمية الجادة، وبذلوا جهودهم لإظهار الحق، والإصرار على الدعوة إلى الله تعالى، والثبات في طريق خدمة قضايا الأمة، ومشروعها التربوي والفكري والتوعوي والحضاري والإنساني. 

جامعة الزيتونة، والأزهر الشريف

كان من بين المؤسسات التي طالها الهجوم والتشويه، مؤسسة جامعة الزيتونة، فنالها الطعن من المغرضين من أعداء الإسلام، وسار في ركبهم أصحاب الهوى وبعض أقزام الفكر، ووصفوا جامعة الزيتونة بأنَّها منبر للتطرف، وبأنها مؤسسة يقودها ثلة من الإسلاميين، متناسين تاريخ هذه المؤسسة العريقة التي تمثل أقدم مركز أكاديمي في العالم، ودرَّس فيها وتخرج منها جمع غفير من العلماء الربانيين والدعاة والمؤرخين والمفكرين، والمناضلين الوطنيين ورجال التحرير، ابتداءاً بشيخ المؤرخين العلامة عبد الرحمن بن خلدون، وأسد بن فرات، والإمام سحنون صاحب المدونة، ومحمد الخضر حسين، وأبو القاسم الشابي، والطاهر بن عاشور، والرئيس الجزائري الراحل هواري بو مدين، وكذلك عبد الحميد بن باديس، والبشير الإبراهيمي ممن قاوموا النهج الفرانكفوني والتغريب ودافعوا عن الهوية العربية والإسلامية ضد المحتل الفرنسي. 

وبالإضافة لذلك، فقد حاول أهل الأهواء تشويه صورة الأزهر الشريف، وبأنه غدا مكاناً لتصدير الإرهاب والعنف تارةً، وبدعم المستبدين في مصر تارة أخرى، وهم لم يقصدوا من ذلك إلا النيل من تلك المؤسسة العلمية الإسلامية الضخمة التي خرَّجت ألوف العلماء والدعاة في الفقه والتفسير والحديث وعلوم القرآن واللغة العربية والتاريخ الإسلامي والعلوم الأخرى، وهو منارة العلم من العصور الإسلامية الأولى حتى يومنا هذا، وكان له دور كبير في النهضة الفكرية التي شهدتها الأمة، وتخرج منه كثيرون من قادة الأمة وعُلمائها أمثال محمد عبده، وعلي مبارك، ومحمد رشيد رضا، ومصطفى السباعي، ومحمد الحامد، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، ومحمد متولي الشعراوي، وأبو زهرة، والشيخ محمود شلتوت، ومحمد مصطفى المراغي، وبقي الأزهر حصن اللغة العربية ومدرسة المثل العليا، وشعلة الانتماء، والهوية الإسلامية الصلبة لهذه الأمة على مرّ تاريخها. 

4/طعن وتشويه علماء المسلمين في ميزان الشرع  

إنَّ الطاعنين في علماء المسلمين يُهلكون أنفسهم بالذنوب والمعاصي، فهم بلا شك استجلبوا على أنفسهم غضب الله تعالى، ومقته، وحربه، فالطعن بعلماء المسلمين بالنسبة لبعض المؤسسات المعادية للإسلام وأذنابها تقصد الطعن بدين الإسلام بحق؛ فمن الذي يدلّ الناس على الدين، ومن الذي يُفتيهم، ومن الذي يُبصرهم، ولذلك إذا مات العلماء، أو نفر الناس عنهم بمثل هذا فمن الذي سيستفتى؟ وهذه الوقيعة معلومة من قبل، فعندما سبَّ بعض أهل البدع الصحابة، وكفّروا الشيخين، ورموا أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) بالعظائم ونحو ذلك، ووقعوا في أبي هريرة رضي الله عنه، فكان مقصودُهم إسقاطَ الحديث، وإسقاط السنة، وإسقاط الروايات؛ لأن هؤلاء الصحابة هم الذين نقلوا الدين عن رسول الله ﷺ، ولذلك قال الإمام المحدّث أبو يوسف يعقوب الدورقي (ت: 252ه): "من سمعته يذكر أحمد بن حنبل بسوء فاتهمه على الإسلام"، لماذا!؟ لأن أحمد (رحمه الله) كان يمثل السنة، ولذلك فالذي يطعن فيه إنما يطعن في السنة، وهذا الخلف لذلك السلف.

وحين سُئل الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف عن حُكم الطعن بالعلماء في المجالس كان جوابه: "هذا الأمر مما عمَّت به البلوى، وعظُم به الخطب، حتى كان سبباً في انصراف كثير من الشباب عن حِلق العلم ومجالس الذكر، والواجب على هؤلاء الوالغين في الأعراض والطعن بالعلماء، التوبة إلى الله تعالى مما يصنعون من تجريح العلماء والدعاة والتشنيع عليهم بأخطاء قد تثبت أو لا تثبت، فالأجدر بهؤلاء الاشتغال بما ينفعهم من طلب العلم والعمل به، ونفع الناس بنشره، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس (تجريح العلماء والدعاة والتشنيع عليهم، عبد الحي يوسف، طريق الإسلام، 2009). 

5/الدفاع عن علماء المسلمين واجب ديني وأخلاقي وإنساني 

يُقال في المثل: "رب ضارة نافعة"، وقد كان تطاول أهل الأهواء والغايات الرخيصة، والمتنطعين، والجهلة على علماء المسلمين (رحمهم الله جميعاً) قد ذَكَّر الناس بتلك الكواكب المنيرة، والنجوم البارقة في مجال الفقه والتفسير والحديث الشريف والتاريخ الإسلامي، وأحيا ذكرهم، وأكثر من قراءة الناس لسيرهم، وفهم تجاربهم العلمية والحياتية. فكما قلنا العلماء ورثة الأنبياء، وفي قول النبي الكريم: "وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في جوف الماء"، و"إن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب" (رواه أبو داود، 3641)، وفي رواية صحيحة أخرى بلفظ: "معلّم الخير يستغفر له كلُّ شيء حتى الحيتان في البحر" (صحيح الجامع، 5883). 

وهكذا، فإنَّ الدفاع عن العلماء هو واجب شرعي وأخلاقي وإنساني، فلا بدَّ أن يقوم به المسلمون القادرون على التصدي والرد والمواجهة دفاعاً عن دينهم الحنيف، وانتصاراً لقدواتهم ومرجعياتهم الفكرية، وإنصافاً للعلماء الربانيين المخلصين للأمة.

وإن الآثار المترتّبة على الوقيعة في العلماء وخيمة، ولها آثارها على القيم الفكرية والأخلاقية والروحية والعقائدية عند المسلمين، ومن ذلك أن العالم يعظم أمر الدين، فإذا أُسقط من يعظم أمر الدين فماذا يحدث للناس؟ وهو قدوة صالحة، فإذا سقطت القدوة من أعين الناس فماذا يبقى لهم؟ ولا شك أنَّ من يريد نشر الشر يعمد إلى إزاحة العقبات من طريقه، وأول عقَبة في طريق هؤلاء هم أهل العلم، ومن أساء الأدب معهم، وفجَّج العبارة ليُنفر الناس؛ فإن الله تعالى سينتقم منه عاجلاً، أو آجلاً إن لم يتوب، ويعود إلى رشده.  

ومهما يكن، فلم أقصد في هذه التدوينة الإساءة لأحد بقدر ما وجدت أهمية استحضار النصوص الشرعية التي تبين فضل العلماء، وتذكر نماذج من التاريخ الإسلامي، وتجارب العلماء العاملين، وذلك لكشف المجهول، وهو من باب النصح والإرشاد والتنبيه، بأنَّ تشويه سمعة العلماء المسلمين فيه ضرر وخيبة كبيرين.

وإنَّ حفظ اللسان - إلا في الخير وحماية أعراض المسلمين - هو منهج نبوي كريم، قال رسول الله ﷺ في الحديث الذي رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون (رواه الترمذي، 2018). 

وإن الشرف الرفيع الذي ناله علماء الأمة العاملين، جعل من أوجب الواجبات أن يوفيهم الناس حقوقهم في الأدب والتكريم والإجلال، وحفظ الحرمات والأعراض، وما يوجد من بعض الناس في بعض المجالس، أو وسائل الإعلام من انتقاص أو ازدراء لأهل العلم بسبب خلافهم معهم، أو جهلهم بحالهم، هو ما يجب إنكاره، واتباع الهدى؛ لأنَّ الوقوع في العلماء حِرمان من علمهم، قال رسول الله ﷺ: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتّى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا" (رواه البخاري، 100. ومسلم، 2673). 

الخلاصة

إنَّ ظاهرة الطعن في العلماء، والحط من مكانتهم، ودعوة الناس للعزوف عنهم، والمطالبة بإسكاتهم، كانت ولا تزال دأب أهل النفاق والأهواء وأعداء المسلمين، وليس المقصود بها -كما ذكرنا - أهلَ العلم، بل العلم بالدين والتفقه به، وبيانهم للحق، واحتسابهم على الناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ووجب علينا الدفاع عنهم والأخذ بحديث النبي الأعظم ﷺ: "من ردّ عن عرض أخيه المسلم كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة" (رواه الترمذي، 2158). 

إنَّ محبة العلماء الربانيين، والدعاة العاملين، والفقهاء المجتهدين، ومعرفةَ قدرهم، وحفظ مكانتهم، والانتصار لهم ممن بغى عليهم وأساء إليهم هو منهج السلف الصالح، ودليل الهدى والاتباع، وإنَّ الحد الفاصل بين الغلو والتنقص، يكمن في التزام ضوابط الشرع في ذلك، والحذر من الوقوع في حبائل الشيطان الذي يُلبّس على الناس دينهم في محاولة منه للخلط بين عدة قضايا يجب الفصل بينها في التعامل مع أهل العلم والدعوة.

فالمحبة والتقدير والإجلال للعلماء الأفاضل مسألة لابدَّ منها، وهي صمَّام أمان لحفظ الأمة وتحصينها من الضياع، ولكنَّ التقدير لهم ومعرفة حقهم لا يعني قطُّ نسبةَ العصمة لهم، وإنزالهم منزلة الأنبياء في ذلك، فهم بشر يُخطئون ويُصيبون، ولا بد من الارتياح في نصحهم ومصارحتهم، وذلك وفق الآداب والأصول إن وقع منهم بُعدٌ عن الصواب، وهو أمر لا ينفكُّ عنه بنو آدم (من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل، عبيدة عبد القادر، 2 ديسمبر 2019). 

وأخيراً، إن ما أرجوه من المتهجمين والمتهمين لعلماء المسلمين تحري الحقيقة، وفهم الواقع، والإنصاف في القول والحكم، وتحكيم العقول لا الأهواء والأغراض، وأن يكونوا ناصحين صادقين أمام أي خبر أو خطأ أو اجتهاد من داعية أو فقيه أو شيخ أو متصدر للفتوى، والأخذ بعين الاعتبار بأن هذا العالم يُصيب ويُخطئ، وهو ليس منزهٌ أو معصوم. وعلى أبناء الأمة أن يستحضروا قبل أيِّ اتّهام أو افتراء أو اتباع هوىً مراقبة الله الرقيب العتيد، والحي القيوم، وأنّه تعالى سائِلنا عن كلّ صغيرة وكبيرة، وأن يأخذوا بقول الله تعالى في مشهد يوم القيامة: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوٓءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُۥٓ أَمَدًۢا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُۥ وَٱللَّهُ رَءُوفٌۢ بِٱلْعِبَادِ﴾ (آل عمران: 30)، وقوله تعالى: ﴿كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ (الإسراء: 13 – 14).

أسأل الله لي ولكم الهداية وحسن الظن والتوفيق في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين