أشاد القرآن الكريم بالعلم، والَّذين يتعلَّمون، بل كان أول ما نزل من الكتاب العظيم الحثّ على العلم والتعلم، قال الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]،  كما رُويت أحاديث عن تقدير الرَّسول صلى الله عليه وسلم للعلم والحث عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنة" (رواه أبو داود، 3641)، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم المعلّم الأول، والمربّي الأمثل لأمته، فترك للإنسانية إرثاً علميّاً عظيماً ممزوجاً بنور الوحي والحكمة الذي أوتيه صلى الله عليه وسلم.
فكانت مسيرة الأمَّة العلميَّة تتطوَّر مع تطور مراحل الدَّعوة، وبناء المجتمع وتأسيس الدولة. ولقد أيقنت الأمَّة: أنَّ العلم من أهم مقوِّمات التَّمكين؛ لأنَّه من المستحيل أن يمكِّن الله تعالى لأمَّةٍ جاهلةٍ، متخلِّفةٍ عن ركاب العلم. وإنَّ النَّاظر للقرآن الكريم؛ ليتراءى له في وضوحٍ: أنَّه زاخرٌ بالآيات الَّتي ترفع من شأن العلم، وتحثُّ على طلبه وتحصيله، فقد جعل القرآن الكريم العلم مقابلاً للكفر؛ الذي هو الجهل، والضَّلال. قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخرةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]. (التمكين للأمَّة الإسلاميَّة ، ص 62)
وإنَّ الشَّيء الوحيد؛ الَّذي أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطلب منه الزِّيادة هو العلمُ. قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114] كما أنَّ أوَّل خاصِّيَّةٍ ميَّز الله تعالى بها ادم عليه السلام هي العلم. قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 31] .

واستمرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في منهجه التَّربويِّ يعلِّم أصحابه، ويذكِّرهم بالله - عزَّ وجلَّ - ويحثُّهم على مكارم الأخلاق، ويوضِّح لهم دقائق الشَّريعة، وأحكامها، وكان توجيهه صلى الله عليه وسلم لأصحابه أحياناً فرديّاً، ومرَّةً جماعيّاً.

 وترك لنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ثروةً هائلةً في وسائله التَّربويَّة في التَّعليم، وإلقاء الدُّروس، فقد راعى صلى الله عليه وسلم الوسائل التَّربويَّة؛ الَّتي تعين على الحفظ، وحسن التلقِّي، وتؤدِّي إلى استقرار الحديث في نفوس وأفئدة الصَّحابة الكرام رضي الله عنهم؛ فمن هذه الوسائل والمبادئ العظيمة النَّافعة في العهد المكيِّ، والمدنيِّ: (مناهج واداب الصَّحابة في التَّعلُّم والتَّعليم ، د. عبد الرحمن البر ، ص 59)


1- الاعتدال، وعدم الإملال، واختيار الوقت المناسب:

كان صلى الله عليه وسلم يقتصد في تعليمه؛ في مقدار ما يلقيه، وفي نوعه، وفي زمانه؛ حتَّى لا يملَّ الصَّحابة، وحتَّى ينشطوا لحفظه، ويسهل عليهم عَقْلُهُ، وفهمه، فعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَتخوَّلُنا بالموعظة في الأيام؛ كرآه ةَ السَّامةِ علينا [البخاري (68)] .


2 - ضرب الأمثال:

للمثل أثرٌ بالغٌ في إيصال المعنى إلى العقل، والقلب؛ ذلك: أنَّه يقدِّم المعنويَّ في صورةٍ حسِّيَّةٍ، فيربطه بالواقع، ويقرِّبه إلى الذِّهن؛ فضلاً عن أنَّ للمثل بمختلف صوره بلاغةً تأخذ بمجامع القلوب، وتستهوي العقول، وبخاصَّةٍ عقول البلغاء؛ ولذلك استكثر القرآن من ضرب الأمثال، وذكر حكمة ذلك في آيات كثيرة، فقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43]، وقال تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقرآن عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21] .


3 - طرح المسائل:

إنَّ طرح السُّؤال من الوسائل التربويَّة المهمَّة في ربط التَّواصل القويِّ بين السَّائل والمسؤول، وفتح ذهن المسؤول، وتركيز اهتمامه على الإجابة، وإحداث حالة من النَّشاط الذِّهنيِّ الكامل؛ ولذلك استخدم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم السُّؤال في صورٍ متعدِّدةٍ لتعليم الصَّحابة؛ ممَّا كان له كبير الأثر في حسن فهمهم، وتمام حفظهم، فأحياناً يوجِّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم السُّؤال لمجرد الآثارة، والتَّشويق، ولفت الآنتباه، ويكون السُّؤال عندئذٍ بصيغة التَّنبيه (ألا) غالباً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدَّرجات؟» قالوا: بلى يا رسولَ الله! قال: «إسباغُ الوضوء على المكاره، وكَثْرَةُ الخُطَا إلى المساجد، وانتظارُ الصَّلاة بعد الصَّلاة، فذلكم الرِّباط» [مسلم (251) ومالك في الموطأ (1/161) والترمذي (51) والنسائي (1/89) وابن ماجه (428)] .

وأحياناً يسألهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عمَّا يعلم: أنَّهم لا علم لهم به، وأنَّهم سيكلُون علمه إلى الله، ورسوله؛ وإنَّما يقصد آثارة انتباههم للموضوع، ولفت أنظارهم إليه. 

فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلسُ فينا من لا درهم له، ولا متاعَ. فقال: «إنَّ المفلس من أمَّتي، من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ، وصيامٍ، وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دَمَ هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه؛ أُخِذَ من خطاياهم، فطُرِحَتْ عليه، ثمَّ طُرِح في النار» [مسلم (2581) والترمذي (2418)]. (مناهج واداب الصَّحابة ، ص 67)
وأحياناً يسأل، فيحسن أحد الصَّحابة الإجابة، فيثني عليه، ويمدحه تشجيعاً له، وتحفيزاً لغيره، كما فعل مع أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا الْمُنْذِرِ! أتدري أيُّ اية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: الله ورسولُه أعلم! قال: «يا أبا الْمُنْذر! أتدري أيُّ ايةٍ من كتاب الله معك أعظمُ؟» قال: قلت: ﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255]، قال: فضرب في صدري، وقال: «والله! ليَهْنِك العِلْمُ أبا المُنْذِرِ!» [مسلم (810) وأبو داود (1460) وأحمد (5/142)].
فهذا الاستحسان، والتَّشجيع يبعث المتعلِّم على الشُّعور بالارتياح، والثِّقة بالنَّفس، ويدعوه إلى طلب، وحفظ المزيد من العلم، وتحصيله. (مناهج وآداب الصَّحابة ، ص 69)


4 - إلقاء المعاني الغريبة المثيرة للاهتمام، والدَّاعية إلى الاستفسار، والسُّؤال:

ومن ألطف ذلك، وأجمله ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بالسُّوق، داخلاً من بعض العَالية، والنَّاس كُنَفَتَهُ، فمرَّ بجَدْيٍ أسَكَّ ميتٍ، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثمَّ قال: «أيكم يحبُّ: أنَّ هذا له بدرهم؟»، فقالوا: ما نحبُّ: أنَّه لنا بشيءٍ، وما نصنع به؟ قال: «أتحبُّون: أنَّه لكم؟» قالوا: والله لو كان حيّاً كان عيباً فيه؛ لأنه أسَكُّ، فكيف، وهو ميتٌ؟! فقال: «فو الله! للدُّنيا أهونُ على الله من هذا عليكم» [مسلم (2957)] .


5- استخدام الوسائل التوضيحيَّة:

كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يستخدم ما يسمَّى اليوم بالوسائل التَّوضيحية؛ لتقرير، وتأكيد المعنى في نفوس وعقول السَّامعين، وشغل كلِّ حواسِّهم بالموضوع، وتركيز انتباههم فيه، ممَّا يساعد على تمام وعيه، وحسن حفظه بكلِّ ملابساته؛ ومن هذه الوسائل:
أ - التعبير بحركة اليد: كتشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، وهو يبيِّن طبيعة العلاقة بين المؤمن وأخيه، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان؛ يشدُّ بعضه بعضاً»، وشبَّك بين أصابعه [البخاري (2446) ومسلم (2585)] .
ب - التعبير بالرَّسم: فكان صلى الله عليه وسلم يخطُّ على الأرض خطوطاً توضيحيَّة، تسترعي نظر الصَّحابة، ثمَّ يأخذ في شرح مفردات ذلك التَّخطيط، وبيان المقصود منه، فعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: خطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّاً بيده، ثمَّ قال: «هذا سبيلُ الله مستقيماً»، ثمَّ خطَّ خطوطاً عن يمينه، وعن شماله، ثمَّ قال: «وهذه سُبُلٌ - قال يزيد: متفرِّقةٌ - على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه»، ثمَّ قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الآنعام: 153] [أحمد (1/435) والطيالسي (244) والدارمي (208) وابن حبان (6 و7)] .
ج - التَّعبير برفع، وإظهار الشَّيء موضع الحديث، كما فعل صلى الله عليه وسلم عند الحديث عن حكم لبس الحرير، والذَّهب، فعن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قال: إنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً، فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً، فجعله في شماله، ثمَّ قال: «إنَّ هذين حرامٌ على ذكور أمَّتي» [أبو داود (4057) والنسائي (8/160)]، وزاد في رواية: «حلٌّ لإناثهم» [المصدران السابقان]، فجمع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بين القول، وبين رفع الذَّهب، والحرير، وإظهارهما، حتَّى يجمع لهم السَّماع، والمشاهدة، فيكون ذلك أوضحَ، وأعونَ على الحفظ.
د - التَّعليم العمليُّ بفعل الشَّيء أمام النَّاس، كما فعل عندما صَعِدَ صلى الله عليه وسلم المنبرَ، فصلَّى بحيث يراه  النَّاس أجمعون، فعن سهل بن سعدٍ السَّاعديِّ رضي الله عنه قال: رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر، فاستقبل القبلة، وكبَّر، وقام النَّاس خلفه، فقرأ وركع، وركع النَّاس خلفه، ثمَّ رفع رأسه، ثمَّ رجع القَهْقَرى، فسجد على الأرض، ثمَّ عاد إلى المنبر، ثمَّ قرأ، ثمَّ ركع، ثمَّ رفع رأسه، ثمَّ رجع القَهْقَرى، فسجد على الأرض، ثمَّ عاد إلى المنبر، ثمَّ قرأ، ثمَّ ركع، ثمَّ رفع رأسه، ثمَّ رجع القَهْقَرَى، حتَّى سجد بالأرض، فلـمَّا فرغ؛ أقبل على الناس، فقال: «أيُّها النَّاسُ! إنَّما صنعت هذا لِتَأْتَمُّوا بي، ولَتَعلَّموا صلاتي» [البخاري (377)] .


6 - استعمال العبارات اللَّطيفة، والرَّقيقة:

إنَّ استعمال لطيف الخطاب، ورقيق العبارات يؤلِّف القلوب، ويستميلها إلى الحقِّ، ويدفع المستمعين إلى الوعي، والحفظ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يمهِّد لكلامه وتوجيهه بعبارةٍ لطيفةٍ رقيقةٍ، وبخاصَّةٍ إذا كان بصدد تعليمهم ما قد يُسْتَحيا من ذكره، كما فعل عند تعليمهم آداب الجلوس لقضاء الحاجة؛ إذ قدَّم لذلك بأنه مثل الوالد للمؤمنين، يُعلِّمهم؛ شفقةً بهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «إنَّما أنا لكم بمنزلة الوالد أُعَلِّمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط؛ فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يَسْتَطِبْ بيمينه» [أبو داود (8)] . (مناهج واداب الصَّحابة في التعلُّم والتَّعليم ، ص 74)
لقد راعى المعلِّم الأوَّل صلى الله عليه وسلم جملةً من المبادئ التَّربويَّة الكريمة؛ كانت غايةً في السُّموِّ الخُلُقيِّ، والكمال العقليِّ، وذلك في تعليقه على ما صدر من بعض الصَّحابة، جعلت التوجيـه يستقـرُّ في قلوبهم، وبقي ماثـلاً أمام بصائرهم؛ لما ارتبط به من معـانٍ تربويـةٍ كريمةٍ، وهذه بعض المبادئ الرَّفيعة الَّتي استعملها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم :
أ - تشجيع المحسن، والثناء عليه:
ليزداد نشاطاً وإقبالاً على العلم، والعمل؛ مثلما فعل مع أبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه - حين أثنى على قراءته، وحسن صوته بالقرآن الكريم. فعن أبي موسى - رضي الله عنه -:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «لو رَأَيْتَني وأنا أستمع لقراءتك البارحة! لقد أُوتيتَ مِزْماراً من مَزَاميرِ ال داود» [البخاري (5048) ومسلم (793)] .
ب - الإشفاق على المخطئ، وعدم تعنيفه:
كان صلوات الله وسلامه عليه يقدِّر ظروف النَّاس، ويراعي أحوالهم، ويعذرهم بجهلهم، ويتلطَّف في تصحيح أخطائهم، ويترفَّق في تعليمهم الصَّواب، ولا شكَّ أنَّ ذلك يملأ قلب المنصوح حبّاً للرِّسالة، وصاحبها، وحرصاً على حفظ الواقعة، والتَّوجيه، وتبليغهما، كما يجعل قلوب الحاضرين المعجبة بهذا التَّصرُّف، والتَّوجيه الرَّقيق مهيَّأةً لحفظ الواقعة بملابساتها كافَّةً؛ ومن ذلك ما رواه معاوية بن الحكم السُّلميُّ رضي الله عنـه قال: «بَـيْـنَـا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ عَطَس رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمُك الله! فرماني القومُ بأبصارهم، فقلتُ: واثُكْلَ أُمِّيَاهْ! ما شأنُكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلـمَّا رأيتهم يُصَمِّتُونَني، لكنِّي سكتُّ، فلما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبأبي هو، وأمِّي! ما رأيتُ معلِّماً قبلـه، ولا بعده أحسنَ تعليمـاً منه، فو الله! ما كَهَرَنـي، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: «إن هذه الصَّلاة لا يَصْلُح فيها شيءٌ من كلام النَّاس؛ إنَّما هو التَّسبيح، والتَّكبير، وقراءة القرآن» [مسلم (537) وأبو داود (930 و931) والنسائي (3/14 - 18) وأحمد (5/447)] .
فانظر - رحمك الله! - إلى هـذا الرِّفق البالغ فـي التَّعليم! وانظر أثـر هذا الرِّفـق في نفس معاويـة بن الحكم السُّلَمي رضي الله عنه، وتأثُّره بحسن تعليمه صلى الله عليه وسلم !.
ج - عدم التَّصريح، والاكتفاء بالتَّعريض فيما يُذمُّ:
لما في ذلك من مراعاة شعور المخطئ، والتَّأكيد على عموم التَّوجيه؛ ومن ذلك ما حَدَثَ مع عبد الله بن اللُّتْبيَّة رضي الله عنه حين استعمله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على صدقات بني سُلَيْم، فقبل الهدايا من المتصدِّقين، فعن أبي حُمَيْد السَّاعديِّ رضي الله عنه قال: استعمل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجلاً على صدقات بني سُلَيْم، يُدعى ابن اللُّتْبِيَّة، فلـمَّا جاء حاسبه صلى الله عليه وسلم ، فقال: هذا مالُكم، وهذا هديـةٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَهَلاَّ جلستَ في بيت أبيك وأمِّك حتَّى تأتيك هديَّتُك؛ إن كنت صادقاً؟» ثمَّ خطبنا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمَّ قال: «أمَّا بعدُ، فإنِّي أستعمل الرَّجل منكم على العمل ممَّا ولاَّني الله، فيأتي، فيقول: هذا مالُكم، وهذا هديـةٌ أُهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمِّه حتَّى تأتيه هديَّتُه؟ والله! لا يأخذ أحدٌ منكم شيئاً بغير حقِّه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفنَّ أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رُغَاءٌ، أو بقرةً لها خُوارٌ، أو شاةً تَيْعَرُ» ثُمَّ رفع يديه؛ حتَّى رُئِيَ بياض إبطيه يقول: «اللَّهمَّ! هل بلَّغتُ؟ بَصْرَ عيني، وسَمْعَ أذني» [البخاري (6979) ومسلم (1832/27)] .
د - الغضب، والتَّعنيف؛ متى كان لذلك دواعٍ مهمَّة:
وذلك كأن يحدث خطأٌ شرعيٌّ من أشخاصٍ لهم حيثيَّةٌ خاصَّةٌ، أو تَجَاوَزَ الخطأُ حدود الفَرديَّة، والجزئيَّة، وأخذ يمثِّل بداية فتنةٍ، أو انحرافٍ عن المنهج؛ على أنَّ هذا الغضب يكون غضباً توجيهيّاً، من غير إسفافٍ، ولا إسرافٍ؛ بل على قدر الحاجة.
وهكذا استمرَّ البناء التَّربويُّ في المجتمع الجديد من خلال المواقف العمليَّة الواضحة، منسجماً مع غرس فريضة التعلُّم، والتَّعليم بين أفراد المجتمع المسلم، فكانت تلك التَّوجيهات تساهم في إعداد الفرد المسلم، والأمَّة المسلمة، والدَّولة المسلمة الَّتي أسَّسها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا جزءٌ من كلٍّ، وغَيْضٌ من فَيْضٍ، وتذكيرٌ، وتنبيهٌ لأهميَّة استمرار البناء التَّربويِّ، والعلميِّ في الأمَّة، حتَّى بعد قيام الدَّولة.
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: " السيرة النبوية"، للدكتور علي محمد الصلابي.