في لحظةٍ تاريخيةٍ نادرة، وفي تطوُّرٍ نوعيٍّ للمقاومة الفلسطينية، وفي لوحةٍ عسكريةٍ جماليةٍ في معركة "طوفان الأقصى"، والتي اندلعت شرارتها يوم سبتهم 07 أكتوبر 2023م، وهي تخوض ملحمةً بطولية، تتجلَّى فيها دلائل التفوُّق الفلسطيني في معركة العقول والإرادات، وتظهر في عنفوانها وهي تسطِّر آياتٍ من الاعتزاز والافتخار بعمليةٍ فريدةٍ من نوعها، وقد كتبت تفاصيلها بتكتيكاتٍ غير معهودة، ووضعت نقاطها على كامل حروفها الناطقة، كأنها تردِّد صيحات "محمود درويش":
"أيُّها المارُّون بين الكلمات العابرة.. احمِلوا أسماءكم وانصرفوا.. واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا..".
وباستحضار خلفيات هذه المعركة البطولية، وضمن هذه اللحظية التاريخية، وفي سياقٍ إقليميٍّ ودوليٍّ ضاغطٍ من أجل تصفية القضية الفلسطينية، وبعد أنْ تبدَّدت أوهام الخيارات السِّياسية والسِّلمية للسَّردية الرَّسمية العربية، امتلك فيها هذا الكيان الصُّهيوني حريته المطلقة بالعربدة اللاَّ محدودة في الاعتداء على القدس الشَّريف، وتدنيس المسجد الأقصى المبارك، والاعتداء على المرابطين والمرابطات، وانتهاك كلِّ المقدَّسات والحرمات، وتجاوز كلِّ الخطوط الحمراء بالإستيطان، وتحت غطاء الدَّعم الغربي المطلق، وبهذا التمدُّد النَّاعم تحت غطاء التطبيع وصفقة القرن واتفاقيات "أبراهام"، ومخططات السَّيطرة الكاملة على الأرض والإنسان.
وفي لحظة الغرور في إمكانية اغتيال الماضي والسَّيطرة على الحاضرة ومصادرة المستقبل، تأتي هذه المعركة التي غيَّرت قواعد الصِّراع أمام كيانٍ نوويٍّ، وأعادت تأسيس قواعد الاشتباك السِّياسي والعسكري معه من جديد على عقارب المقاومة، وعلى حساب "لحظة غرور" هذا الكيان المتبجِّح والمتمدِّد، ودحرجة نفوذه المتصاعد إلى الوراء، وتفكيك أسطورته التي لا تُقهر، رغم ما يحوزه من الإمكانات العسكرية والأمنية والتقنية والتكنولوجية والاستخباراتية والغطاء الدولي وبحبلٍ من النَّاس.
ومهما تكن من نتائج لهذه المعركة، فإنَّ فائض العزة والكرامة الذي أعلنته هذه العملية العسكرية الواسعة (البرِّية والجوية والبحرية)، التي أطلقتها كتائب الشَّهيد عز الدِّين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية – حماس، والتي استفتحت هذا الحدث التاريخي بصدمةٍ أذهلت كلَّ العالم، رغم الإمكانات الذاتية المتواضعة، دوَّى بها خطاب "محمد الضَّيف" القائد العام لكتائب القسام، والذي ظهر كأكبر جنرالٍ للحرب، لا يعلو صوتٌ فوق صوته في ساحة هذه المعركة المتقنة والمنسَّقة والمتزامنة، يرسل من خلاله رسائل متعدِّدة الأبعاد للعالم بأسره، بأنَّ زمن الاستكبار الصُّهيو - أمريكي قد ولَّى، وعلى الجميع أنْ يقف وقفات الإجلال والإكبار لهذه المقاومة، وبأنه لا يمكن تجاوزها في أيِّ قرار يخصُّ هذه المنطقة.
هذه المعركة عكست بصدقٍ - وبكلِّ وضوحٍ - قدرة المقاومة على الإرادة والإدارة والسيطرة والتحكُّم في الهندسة الإبداعية للمعركة بكلِّ تفاصيلها، وقد رسمت المشهد المستقبلي بما يقرِّب الصورة النَّاصعة للنَّصر الكبير والتحرير الشَّامل لفلسطين، كلِّ فلسطين، من البحر إلى النَّهر، وقد ظهر هذا الكيان وهو يتهاوى أمام العالم، وأنَّ صورته الكارتونية أوهن من بيت العنكبوت، وأنَّه لا يزال تحت الصَّدمة أمام حالة الذُّهول لسقوط المسلَّمات السَّابقة بالتفوُّق المطلق له، وقد اعترف بأنَّ ما يجري لا يشبه أيَّ شيءٍ عرفه في القتال من قبل.
وفي ترجمةٍ لعنصر المفاجأة وحالة الذُّهول والصَّدمة، وكأنه حُلْمٌ من صنع الخيال يتحقق، في مشاهد بطولية نادرة، في زمن الخضوع والاستسلام والتطبيع، وأمام ذلك الكيان الذي تمَّ تقديمه للعالم بأنه جيشٌ لا يُقهر، وأنه أسطورةٌ عسكريةٌ وأمنية استثنائية، فإذا بهذه المقاومة تقدِّم مشاهد خيالية لا يصدقها المطبِّعون، ولا يؤمن بها مَن باع ضميره للشَّيطان الأكبر في هذا الزمان، ولأوَّل مرَّةٍ في تاريخ هذا الصِّراع الوجودي تبدأ المعركة بقرارٍ مقاومٍ، وبهجومٍ استباقيٍّ مفاجئٍ، أفقد العدو الصُّهيوني توازنه، بأنه لا يملك معلوماتٍ دقيقةٍ حتى عن عدد قتلاه وأسْراه وجرحاه، وأنَّ قادة هذا الكيان تعرَّضوا لصدمةٍ كبيرةٍ ومفاجئة، وأنَّ "حماس" مارست خداعًا تكتيكيًّا محكمًا، صرخ به "الناتن – ياهو" رئيس وزراء هذا الكيان بحقيقته عندما قال: "حماس شنَّت هجومًا قاتلاً ومفاجئًا ضدَّ دولة إسرائيل ومواطنيها".
لقد فقد هذا الكيان السَّيطرة على غلاف غزة في سابقةٍ تاريخيةٍ في مسيرة هذا الصِّراع منذ 1948م، بالسَّيطرة على 07 مستوطنات ومواقع عسكرية تمثِّل ثلثي مساحة غزة، وهي جرعةٌ كبيرةٌ ومكثَّفة من المواجهة في ظلِّ هذه الرُّعب والصَّدمة التي أُصيب بها، وأجمعت لغةُ الخبراء والمحلِّلين على تصدُّع المنظومة الأمنية الصُّهيونية، وأنها قد انهارت بشكلٍ فضيع، وأنه يصعب ترميمها مهما كانت ردَّة فعلها، وأنَّ جميع حصونها قد انكسرت بما يمرِّغ كرامتها في التراب، ويهوي بكبريائها على الأرض، كما قال تعالى:
".. وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِنَ اللَّهِ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.."(الحشر:02).
وأنَّ ذلك الإخفاق يتجلَّى في ردَّة الفعل البطيئة، بما يترجم حالة الفقر في المعلومات الاستخباراتية، وحالة الشُّحِّ في المعطيات على الأرض، وهو ما لم يكن يتخيَّله الصَّهاينة، ولم يروه في كوابيس أحلامهم، بعد أن تهاوَت صورتهم أمام العالم، وبهذا الشَّكل الدراماتيكي.
فعمليات القتل والأسر التي تفنَّنت فيها المقاومة في هذه المعركة، وهي حصيلةٌ تاريخيةٌ مخزيةٌ لهذا الكيان الصُّهيوني، وبشائرٌ عابرةٌ للزمان والمكان لتحرير حوالي 07 آلاف من الأسرى الفلسطينيين، وبما يمثِّل نجاحًا كبيرًا على خطى التحرير الكامل للأرض والإنسان. وفي الوقت الذي كان يرتعد فيه من كارثة وقوع أحد جنوده أسيرًا حيًّا أو ميِّتًا، ها هي نقطة الضَّعف الصُّهيوني يتفجَّر جرحُها بتوثيق عملياتٍ واسعةٍ لأسْر الجنود الصَّهاينة - ومن مختلف الرُّتب العسكرية - ما سيضع هذا العدو في ورطةٍ تاريخيةٍ غير مسبوقة، ويفتح الصِّراع على مصراعيه، ولكن بكبح جماح هذا الكيان المطعون في كبريائه.
لقد كان لهذه العملية العسكرية النَّوعية للمقاومة رسائل متعدِّدة، لا يجب التأخُّر في قراءة أبعادها، أو التقصير في رصد دلالاتها، فهي عمليةٌ عسكرية جريئةٌ وشاملة، تلامس حالة الحرب الحقيقية، وهو ما يقرِّب عقارب ساعة المواجهة الفاصلة للتحرير الكامل لفلسطين.
وأنَّ زمام المبادرة في ذلك قد أصبحت بيد المقاومة دون سواها، وأنَّ حماس قد تخلَّت عن تحفظاتها السَّابقة، بعدم استعجال المواجهة قبل الإعداد الكامل لها، وهو ما يعني أنها انخرطت نهائيًّا وقطعيًّا في هذا الخيار العسكري الصَّريح، بعد أن جمعت بين السِّياسة والمقاومة بانخراطها ومشاركاتها في الانتخابات والحكومات السَّابقة، وأنه لا توجد خياراتٌ أخرى ممكنةٌ مع هذا العدو، وأنَّ إعلان العدو بأنه في حالة حرب، وقد أعلن حالة الطوارئ، وقد اتَّجه إلى مجلس الأمن للإعلام بذلك، أنه قد تلقَّف الرسالة واضحةً بأنَّ "مَن يريد السَّلام فعليه أن يستعدَّ للحرب"، وأنَّ توحيد السَّاحات والميادين أصبح حقيقةً واقعيةً تقرِّب المواجهة الشَّاملة مع محور المقاومة، وأنَّ غزَّة لن تكون لوحدها في هذه الحرب الشَّاملة، وأنَّ للمقاومة اليد الطُّولَى على القوى الإقليمية والدولية الداعمة والمتواطئة مع هذا الكيان السَّرطاني، وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه المقاربات الشيطانية – ومنها تمدُّد موجة التطبيع، لتحاول الوصول إلى ابتلاع دولٍ عربيةٍ وازنةٍ تاريخيًّا، مثل: السُّعودية والضَّغط المستمر على الجزائر، ما يجعل توقيت "طوفان الأقصى" توقيتًا دقيقًا واستباقيًّا لإبطال هذا السِّحر من فائض الخيانة والتطبيع والغدر من بعض أركان النظام العربي.
نحن الآن أمام واقعٍ جديد، وهو الخيار الحتمي للمقاومة، وتعميمه على كافة السَّاحات، وقد وصلت إليه كلُّ الجبهات بعد استنفاذ كافة الخيارات، وهو يومٌ تاريخيٌّ، سيشكِّل حتمًا مرحلةً جديدةً، أيًّا كانت التطورات والانزلاقات، وسيجعل "طوفانُ الأقصى" هؤلاء الصَّهاينةَ والمطبعين من المُغْرَقِين. وأنَّ تفوُّقًا في الذَّات المقاومة، وأنَّ وعيًّا بالذَّات التاريخية للأمة، وأنَّ إحساسًا باللحظة الفاصلة تجعلنا أمام سانحةٍ ذهبيةٍ للتقدُّم نحو الأمام، وأمام فرصةٍ استراتيجيةٍ لاستيقاظ هذا المارد الحضاري، وعودة الأمة كإحدى القوى الفاعلة في عالمٍ متعدِّد الأقطاب، واستنقاذ البشرية بالإسلام من جديد.