{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]


القرآن دواء الاختلاف

أورد الشيخ رشيد رضا أن الآية جاءت بعد: "ذكر اختلاف الذين أوتوا الكتاب في الكتاب نفسه وتحويلهم الدواء داء، واتخاذهم الرابطة الجامعة آلة مفرقة، ثم هداية الله تعالى أهل الإيمان الصحيح لما وقع الاختلاف فيه من الحق برجوعهم إلى الأصل وهو الكتاب، وتحكيمه في كل خلاف، وقبول حكمه في كل نزاع، والاعتماد في فهمه على ما يؤخذ من جملته، وما عُلم عِلما صحيحا من سنة من جاء به، ومن صدقوه واتبعوه قبل الخلاف." مشيرا بذلك إلى قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]

سنة الله ماضية

 ويلفت الشيخ رشيد رضا نظرنا في هذه الآية التي خوطب بها صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حقيقة يغفل عنها كثير من المسلمين فيقول: 
"وتوجيه –هذا الخطاب- أولا وبالذات إلى أهل الصدر الأول من المسلمين، الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس أكبر عبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم، ويحسبون أنهم بمجرد الانتماء إلى الإسلام يكونون أهلا لدخول الجنة، جاهلين سنة الله تعالى في أهل الهدى منذ خلقهم، وهي تحمل الشدائد والمصائب والضرر والإيذاء في طريق الحق، وهداية الخلق، وعجيب من أمة ينطق كتابها بالآيات البينات على أن سنة الله في خلقه واحدة لا تحويل لها ولا تبديل، ويحثها دائما على الاعتبار بها والسير في الأرض لمعرفة آثارها في الأمم البائدة والأمم الحاضرة، ثم هم يحولون هذه السنة عنهم، ويفشو فيهم الإنكار على من يعظهم بما حكى الله تعالى عن حال تلك الأمم التي كفرت بنعمة الله تعالى عليها بالسلم والهداية قائلين: إنه يقيس المسلمين على الكافرين!"
فها هي سنن الله في خلقه مبثوثة في كتابه، تدعو أهل الإيمان إلى الاعتبار بها، فهي خير عزاء لهم فيما تمر به الأمة، وخير دليل لهم لتحقيق نصر الله والفوز برضوانه.

حال السابقين سلوة للاحقين

وإذا كانت الآية قد نزلت والصحابة في شدة وبلاء، سواء كان نزولها وهم في مكة أو عقب غزوة أحد أو غزوة الأحزاب، يقرر الشيخ رضا أنها تسليهم وتخفف عنهم شدائدهم فتخاطبهم قائلة:
 "وإلى الآن لم يصبكم ما أصاب الذين سبقوكم بالإيمان والهدى والدعوة إلى الحق من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فالمراد بالمثل: الوصف العظيم والحالة التي لها شأن بحيث يضرب بها المثل. أي لم تكن لكم هذه الحال الشديدة إلى الآن." 
فلا يغرركم يا مسلمين ويا أهل فلسطين ويا أهلنا في غزة المجاهدين تقلب الذين كفروا في البلاد وشدة حربهم على النساء والبنين، فقد أصاب من قبلنا أشد من ذلك، هل تتصورون أن يقول رسول من رسل الله وهم أعلم الناس بالله: متى نصر الله؟ 
يقول الشيخ رضا: 
"وما من شدة تصيب الأمم إلا وهي دون الشدة التي يستعجل بها رسل الله تعالى نصر الله استبطاء له، وهم أعلم الناس بالله تعالى وأشدهم اتكالا عليه وتسليما له." 

النصر قرين الصبر على البلاء

وإذا كانت الآية تؤكد مع آيات أخرى في معناها حقيقة ابتلاء المؤمنين الصادقين فلماذا نجد حالنا نتعجب عند كل نازلة أو مصيبة تحل بنا ويتذبذب كثيرون ويرتابون؟ 
يقول رشيد رضا: "ولكنك تجد أكثر المسلمين الذين تتلى عليهم دائما في غفلة عنها، فمن لم يغفل عن تصور المعنى في ذهنه يغفل عن انطباقه على الواقع، ولذلك تجد الكثيرين منهم يذهبون إلى أن من يؤذى في سبيل الحق بالقول وبالفعل كان وقوع الأذى عليه دليلا على أنه مبطل لا يطلب الحق! فما أجهلهم بكتاب الله! وما أبعدهم عن العلم بسنن الله! وما أغفلهم عن تأويلهما في خلق الله! اتخذ المسلمون هذا القرآن مهجورا إلا ما يتغنون به من بعض سوره في المحافل الجامعة، ففقدوا روح الدين، وتبع الروح الجسمان" 
ينقل الشيخ رضا رأيين للعلماء في معنى الآية هل هي عتاب أو إنكار، والثاني أشد في الموعظة وأبلغ، ثم يقول: 
"فكيف لا ينكر مسلم على نفسه مثل هذا، وهو يعلم أنه دون الصحابة الكرام إيمانا وإسلاما ودعوة إلى الحق وصبرا على المكاره في سبيله؟ لماذا لا ينكر على نفسه وعلى من يراه من أمثاله الذين يقولون آمنا بالله، فإذا أوذي أحدهم في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله، وآثر ما عند الناس على ما عند الله؟ بل لماذا لا ينكر على نفسه وعلى من يراهم لا هم لهم إلا زينة هذه الحياة الدنيا، والاستكثار من المال ولو من غير حله، والانبساط في الأرض ولو بالبغي في الأرض والاعتداء على حقوق الجيران وغيرهم؟"

إلجام العوام عن الأحكام

يبدي الشيخ عجبه –وحق له- من طامة ألمت بالأمة، وهي تكلم الأمرؤ التافه في أمر العامة، فتراه يريد أن يقرر للمسلمين متى يحاربون ومتى يسالمون، ومتى يهاجمون ومتى يدافعون، وهو عن طلب حق نفسه وأخص حقوقها، والدفاع عن عرضه أقعد وأجبن.. 
يقول الشيخ: "وأعجب من هذا وأغرب أنهم بلغوا من الوقاحة والتهجم أن صاروا يعارضون حملة القرآن، وأنصار السنة، وعرفاء الشريعة، وحجج العقائد، وحكماء الأحكام، ويجادلونهم في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وقد حلوا رابطة الدين ودعوا إلى رابطة أخرى يسمونها الوطنية يفرقون بها بين المؤمنين." 

رسائل الآية

يختم الشيخ رضا تدبراته للآية، برسائل ما أحوج مسلم اليوم إليها:

  • فإلى كل مسلم: 

"يا أيها المسلم المقلد لوالديه ومعاشريه وأقرانه، الذي يحسب أنه من أهل الجنة; لأنه ولد وربي بين المسلمين، ورضي ببعض ما هم عليه من رسوم الدين، أو اتكالا على شفاعة الأولين، اقرأ أو اسمع وتأمل ما عاتب الله تعالى به أفضل سلفك الصالحين، وما ذكره عمن سبقهم من أتباع النبيين."

  • وإلى العلماء:

 "يا أيها العلماء بالرسوم، والعاكفون على قراءة كتب العلوم، ليس بأمانيكم ولا أماني الكاتبين، فقد وضع كتاب الله الميزان للصادقين والمنافقين، فعليكم أن تتذكروا وتذكروا به إخوانكم المسلمين، ولا يصدنكم عن آيات الله والاهتداء بكتاب الله أنكم فضلتم الناس بقراءة مطولات الكتب العربية، وصرف السنين الطوال في فهم الأحكام الفقهية، والاكتفاء من علم الإيمان بمثل السنوسية والنسفية; فإن ينبوع الإيمان كتاب الله تعالى فاحصوا ما فيه من الشعب والآيات على الإيمان {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 9] .

  • وإلى الأمراء: 

"يا أيها الأمراء والسلاطين الذين انتحلتم لأنفسكم الرياسة في هذا الدين، وإفاضة السلطة الدينية على العلماء والحاكمين، اعلموا أنكم مخاطبون كغيركم بهذه الآيات، بل هي موجهة إلى غيركم بالتبع وإليكم أولا وبالذات، لأنكم سلبتم الأمة الاستطاعة على العمل للملة، ومنكم من سلبها أيضا حرية القول والدعوة، فعليكم أن تخفضوا من هذه الكبرياء... وعليكم بعد إقامة شعب الإيمان في أنفسكم، أن تقيموها في أنفس رعيتكم، وتكونوا قدوة لعالمهم وعاملهم، وغنيهم وفقيرهم، لتكونوا أئمة هدى ونور لا أئمة ضلالة وفجور، وإلا كان عليكم إثمكم وإثم جميع الأمم التي منيت بكم."