تغتاظ من جهل أحدهم أو كيدِه وهو يسخر من رجال الأنفاق الذين غاصوا في أعماق الأرض في سبيل الله، ويتطاول عليهم بأنهم يعيشون في أمان وسلام ورفاهية تحت الأرض بينما قومهم يُغتالون ويُجتالون.
وهذا الكيد الفاجر نمط قديم في النفاق أو التضليل لم تتغيّر طريقته حين يتجاهل هؤلاء عمداً أو سوءَ نية أن أنفاقنا اليوم هي وسيلة تواصلنا الوحيدة شبه الآمنة في جغرافياتنا المكشوفة على رصد العدوّ، وهي المعبر الوحيد الخاضع لسيادة فلسطينية كاملة.
وهذه الأنفاق هي سلاح المناضلين العظيم في أرض سهليّة مكشوفة لا تمتلك مقومات الدفاع الطبيعي، فلذلك يحرّضون عليها.
وهذه الأنفاق هي القلعة الخفيّة الحصينة التي لا يراها الأعداء ولا الأصدقاء بعيونهم الطبيعية أو الصناعيّة.
وهذه الأنفاق كما يقول العدوّ -الذي يخشاها- ليست ملجأ مؤمَّناً خفيّاً فحسب بل هي ذخر استراتيجي ومركز ثقل متقدّم في منظومة حرب الشوارع التي تكتسب الآن تجربة جديدة، ومركز تهديد فعّال ضد العدوّ بهجماتها الخاطفة.
وهذه الأنفاق تعني أن المعركة طويلة ستستنزف الأعداء حتى لا يبقى فيهم رمق أو تحمُّل.
ولا يدري هؤلاء المحرّضون الأوغاد أنّ رجالنا رابضون بأسلحتهم وعتادهم يرتقبون صيدهم، وينصبون له الفخاخ، ويتربصون به الدوائر، ويفتحون منه بوابات الجحيم.
يظنون أن الحرارة معتدلة طريّة وما دروا أن الحرارة عالية يزيدها الإجهاد وضيق الأمكنة، وشدة الضغط وقلة الأوكسجين وضيق الصدر وصعوبة التنفس.

وقد كان أحدهم يمضي الشهور لا يكاد يرى أهله إلا لِماماً وهو يحفر في أعماق الأرض وفق خرائط معقدة، ثم ينقل التراب على مراحل في رحلات طويلة مرهقة، ويوزعه بحساب حتى لا تفطن العيون الراصدة. وكثيراً ما حملوا مصابيح الكاز والزيت ليضيئوا حفائر جوف الأرض المظلمة فتخرج وجوههم فاحمة مسودّة يلتصق بها الهباب والسخام والغبار الثقيل.

وإذا هطل المطار تسرّب إليهم، وأضعف دعائم حفائرهم، ونقلوها بالدِّلاء الثقيلة نقلاً رفيقاً ذكيّاً لئلا يكشفوا.
وكثيراً ما سقطت عليهم القذائف، وسُدّت عليهم الفتحات، وماتوا مخنوقين من الحر والغاز وانعدام الهواء.
وكم دخلت عليهم دواب الأرض من عقاربها وحيّاتها وهوامها الضالّة فمسّتهم بأذى وأضرّت بهم.
وإذا عاد الواحد منهم إلى أهله بعد دهر فتراه مجهوداً منهوكاً يبتغي استرداد عافيته واستراحة بدنه المكدود، ولا يكاد يرى أهله كما كان يراهم من قبل، ثم يعود إلى عرينه الخفيّ قبل أن يفطن له أحد.
يعيش تحت الغبار الناشب من الحفر والتنقيب والإهالات والانهيارات والانفتاحات المفاجئة والأخطاء غير المحسوبة.
ويظل أحدهم صامتاً لأيام خشية أن يُسمع همسُهم، ولا يتحركون إلا لحاجة خوفاً من التقاط ذبذبات حركتهم.
يعيشون بجرمة ماء محسوبة وبضع تمرات وقطع من الخبز اليابس والكعك القديم يغمّسونه بالماء القليل ليظلوا أحياء قادرين على الصمود. 
تكاد تعمى أعينهم من قلة الضوء وانعدامه كثيراً لولا ظهورهم من عيون الأرض قليلاً لإنجاز مهمة عاجلة، فيظلون دقائق قبل أن تسترد عيونهم قدرتها على الإبصار.

لقد كانت الأنفاق وما زالت هي رئة حياتنا المحاصّرة من الأباعد والأقارب، وكانت السبيل إلى الصمود والثبات بطعامها وأدواتها وعتادها ودوائها ونجدتها.

وكثيراً ما أنقذت هذه الأنفاق حياة المئات من الناس الذين لم يجدوا سبيلاً للخروج من النار والحصار، فتضمّهم وتؤويهم وتنقلهم إلى محل أكثر أمناً.
لقد غيرت أنفاقنا مجرى الصراع وأرهقت العدوّ وأربكته وجعلته أعمى أمام جنودنا الذين لا يهابون الموت، ولا يقيمون له حساباً، فلذلك ترى العدوّ ومن شايعه من ملأ النفاق والعمالة يحرّضون عليها غاية التحريض، ويسعون لإخراجها من الخدمة بكل وسيلة يعرفونها، وسيفشلون كما فشل حلفاؤهم الأمريكان في فيتنام سابقاً في ضربها، وسيُغلَبون إن شاء الله، وعداً مُحقّقاً.