وسألني بعض الفضلاء عن تأخّر النصر رغم هذا البلاء العظيم والتضحية الهائلة، وطلب مني بياناً واعظاً، وليس تأطيراً مُبهَماً، فاستعنتُ الله، وكتبتُ له:

قد سبق للمؤمنين قبلكم أنْ شكوا إلى رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه ظلم قريش في مكة وشدة عذابها لهم، وظنّوا أن رسول الله تأخر في دعائه المستجاب لهم، ولم يطلب النصر من ربّه، فتغيّر لونه من فهمهم لا من سؤالهم، وبيّن لهم بحسم قاطع أن النصر مقرون بالبلاء العظيم الذي يأخذ مداه، لكنه واقعٌ محقق لا شكّ فيه ولا ارتياب: ((كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض فيُجعَل فيه، فيُجاء بالمِنشار فيُوضع على رأسه فيشقّ باثنتين، وما يصدّه ذلك عن دينه، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصدّه ذلك عن دينه، واللَّه ليَتِمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللَّه أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري.

 واعلموا أن النصر المراد في الآيات والنصوص لا يعني الغلبة والظفر، بل هو من مقتضياته، لأن أصل معنى النصر هو الإعانة، والنصرةُ حُسنُ المعونة، والاستنصار هو استمداد المعونة، فنصر الله هو عونُه لعباده وغوثُه لهم، فهل ترون أن نصر الله قد حلّ بأولئك المقاتلين وحاضنتهم بهذا الثبات الذي ترونه، وهذا الصمود العجيب، وهذه المبادأة الاستراتيجيّة التي قلَبت معادلة الصراع، وأسّست لعهد جديد! 

وأحسب أنّه نصرٌ نوعيّ مخصوص بأهل غـزّة، وأنّهم على عتبة عالية من معارج نصر الله أو أنّهم يتهيّؤون له، وأمّا غيرُهم ممن لم يسعَ جهده ولم يُعِدّ استطاعته ولم يشتبك فهم عن النصر مُبعَدون حتى يُسهموا فيه! 

وقد يتباطأ النصر لأنه مربوط بأحوالنا المشتركة مجتمعين – فنحن حالة واحدة متضامّة - لتمييز الصفوف المحسوبة علينا وتجلياتها، وإظهار النفيس والخسيس في المواقف المستورة، وإعطاء الفرصة لبقيّة الخير فيمن تأخر في النصرة لينضمّ إلى الركب، ويصحّح المسار، ويعدّل المواقف التي لا تليق بحقيقته وجوهر التزامه.

والنصر قدرٌ من أقدار الله، وتدبير من تدابيره، وهو يجري وفق سنّة إلهية مقدّرة وليس وفق حسابات أحدٍ أو تمنّياته أو تخطيطه وإعداده.

وقد يظنّ أحدهم أن النصر قد تأخر على غــزّة، وما درَى أن النصر إن تأخّر حقّاً فقد تأخر علينا نحن جميعاً، لأن فلسطين هي مفتاح تحررنا ومعيار استحقاقنا لنصر الله، وقد استحقّ نفرٌ منا الجزاء العظيم من ربّهم على ما قدّموه من فائق القوة المستطاعة في ثغر غـ.ـ.ـزّة الأشمّ، لكن هذه الأمة لم تثُرْ معهم ولم تتحرك كما ينبغي لها أن تفعل بما أمرها الله، ولم تصدم العدوَّ صدمة رجلٍ واحدٍ كما قال الفاروق عمر في وصيته لعمرو بن العاص يوم أن تأخّر عليه فتح الإسكندرية، فلم تستحقّ هذه الأمّة منّا أن تشمّ ريح النصر الآن أو أن تستثمره ببركة الله، أو أنّ ربّنا سبحانه قد مدّ لهم في الفرصة!

وقد يتأخر النصر لأنّ الأمّة لم تبذل ما يكفي لإثبات جدارتها به، فهذا النصر المنتظَر ليس نصراً لجماعة أو حزب أو دولة فهو نصر لأمّة من عباد الله، وقد تكون الأمّة المتخلّفة سبباً في تأخّر نصر الطليعة المستحقّ، فأصلِحوا أنفسكم، وراجِعوا ما تأخّرتم فيه لعلّ الله يعجّل في جَبْرنا وإمدادنا !

 وكثيراً ما يظن الناس أن أطراف المعركة هما الفريقان المتقاتلان، وأن النصر مرتبط بغلبة أحدهم على لآخر بظهورٍ كاسحٍ أو موازنة النقاط، ولكنّ الحقيقة أن كل فريق هو طليعة لأمّة وحضارة، وأنّ ختام مشاهد النصر أو الهزيمة مرتبط بظهور الطرف العميق واستعداده لاستلام راية النصر أو البناء على لحظة الحقيقة الفارقة.   

والنصر أمر عظيم لا يناله إلا مستحقّه، ولا يستقر إلا في بيئة صالحة لإنباته والبناء عليه وصيانته، وإذا لم يتهيّأ الناسُ لهذا الاستحقاق ويُناسبوه فقد يكون النصر خصماً عليهم وكَسراً، وقد يفقدونه، وينقلب عليهم هزيمةً منكرة تطيل نكبتهم وتزيدها قساوة، ويكون المُصابُ فيه أفدحَ مما كان.

وإذا ارتابت النخبة القائدة في تحقُّق نصر الله وقُرب ميقاته وإمداده، واستبعدت حدوثه، وركّبت الحسابات فيه، وربطته بأطراف وحبال موهومة فقد وقعت في التشكيك والاعتراض، وتأخر عليها نزوله.

وقد يتأخر النصر لأن صورته لم تكتمل بعدُ في مسار البلاء العظيم، وذلك عندما يكون الشرّ عظيماً متمكّناً، فإن النصر عليه يأخذ كل وقته وأسبابه، ويتدرّج النصر، حتى نرى في عدوّنا العوج والانكسار.   

 وقد يتأخر النصر إذا أعجبتنا أنفسنا وأفعالُنا، ولم نتواضع لله الذي وفقنا في سبيل نصرته، ولم نتواضع لعباده من رفقائنا الذين نافسونا في السبيل إليه، وطمعوا أن يكونوا من السابقين السابقين، واجتهدوا في ذلك، ولم يكتبها الله لهم لبُعدهم عن محلّها أو عجزهم عن خوضها بما يعلمه الله مِن حالهم. 

واعلموا أنّ النصر حقٌّ كائنٌ، وهو داخلٌ في مسائل الاعتقاد الغيبيّ، لا ينكره إلا جاهلٌ أو مرتاب أو مظلم الفؤاد (وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين)، ويرى المؤمن آثاره وشواهده عند تحققه، وما أكثر شواهدَه!

وقد أبلغنا الله أننا إن نصرْناه نصرَنا (ولينصرنّ من ينصره)، (إن تنصروا الله ينصركم) وقد جعلنا بين أنفسنا ونصر الله مانعاً بحبّ الدنيا والانشغال بحظوظها والمنافسة على ركامها ومناصبها وامتيازاتها، وتأخيرِ الإعلان عن ترك هذه الحظوظ والانخراطِ في نصرة الله وحده.

وقد علِمنا أن حبّ الدنيا رأس كل خطيئة، ودليل على اختلاط النيات والاضطراب في توجهاتها ومسارات انعقادها، فالله لا ينصر إلا من ينصره ويصدق في نيته، وإلا فإن النصر عموماً قضية مادية تتعلق بالقدرات وموازنات المعركة.

وقد علِمنا أنّ حبّ الدنيا قد استعبدَ نفراً من المحسوبين علينا، وأصابهم بالحرص والشره وحبّ الظهور وظلم الأقربين وعدم الاستعفاء ممن ظلموه سابقاً، فلم يوفقهم الله لحسن التوكّل عليه، ولم يُعِنهم على صراطه المستقيم، فلا ينقضي تعبُهم، ولا يصفو عَيشُهم. 

 ومن أسباب تأخره هذا الخلاف الشديد والتناحر وخذلان الأهل وترك نصرتهم والانقسام الرأسيّ الذي تنساق له عامّة القاعدة المتحزِّبة منهم فيأبَى بعض الفرقاء المتنفّذين فيه أن يحسموه باتجاه الجبر والتنازل والعفو، وأن يقدّموا المجتهد الأصلح منهم، وأن يكونوا أمّة واحدة يجمعها هدفٌ شاغلٌ، وقد علِمنا أنّ النصر إذا اقترب في ظل الخلاف الناشب القويّ فإنه يزيد الشرّ بينهم، ويؤجّج الصراع، ويُفسِد ما بقي من الودّ بكبر الحسد.

واعلموا أنّ النصر قد يبدو لنا متأخّراً لأنّ وجه هذا النصر لم يظهر كما شاءه الله لنا، وأنّ الله يريد أن يظهره لنا من غير الزاوية التي ننظر منها إلى وجه النصر، وقد يكون النصرُ مقبلاً علينا ونحن لا ندري وجهه.