لا أزال أعجب من هذه النفوس التي احتملت كل هذا الضغط الرهيب عليها، تجد أحدهم فقد العشرات والمئات من عائلته، ولم يبق له منزل يؤويه، وبات بلا مال ولا محل ولا مرفق يعتاش منه، ولا يعرف إذا أصبح عليه الصباح إلا أن يسعى لتوفير قوت يومه وقوت من يعولهم ممن تبقّى له من عائلته الكبيرة ومَن أوى معه، ويشتدّ الوجع إذا كان بين النازحين المشرّدين مريض عاجز من خاصّة أهله أو مصابٌ ثقيل الإصابة لا يجد في المشافي موضعاً يقف عليه بدنُه المهدود.
حتى إذا أراد الصلاة طلباً للسكينة فإنه لا يجد مسجداً يضع فيه جبهته فقد تهدّمت كلها، وكان عليه أن يجد موضعاً يسكن إليه بعيداً عن الضغط المتكاثر الكثيف عليه ولا يجده إلا بين الركام الذي يذكّره بذلك البلاء العظيم.
لا أحد يشعر بأنّ الأمن له قيمة هائلة إلا هم، فإنّ كل دقيقة تمرّ عليهم بلا موتٍ تعني ولادةَ خوفٍ جديد من الدقيقة التالية.
وأشقُّ ساعات المرء هناك عليه يوم يجدّ ساعات طويلة بحثاً عن مال يشتري به ما يؤكَل بأضعاف مضاعفة من قيمته، أو يجد أحداً يقتسم معه بعض ما لقِيه، وأسعدُ لحظاته عندما يعود إلى خيمته بشيء يبتسمون فيه إذْ غادرتهم البسمةُ، ولم تعد تستعرض وجوههم التي بدَتْ عروقها من المجاعة.
ومن لحظاتهم السعيدة تلك اللحظة التي تسكن فيها السماء المشتعلة بالنار ولا تبثّ أصوات الزنّانات الطائرة التي تلعق الدماء في كل كابوسٍ تُطلّ منه.
من اللحظات التي تمزّق الفؤاد أن يرى الخوف يهزّ صغاره هزّاً، ويطلق صيحات البنات المذعورات، أو يجد إحداهنّ قد انعقد لسانُها وتدورت عيناها من الذهول، ولا يسعه أن يفعل لهم شيئاً سوى كلمات لا يسمعونها ولا يعقلونها إذا سمعوها.
هذا الجوّ المشحون الكئيب الذي يظلّل كل شيء تراه لابد أن يسيطر على النفس، فتارة يبعث فيهم روح التمرّد على كل شيء ويثور في كل اتجاه بلا هدى ويمسّ كل مَن حوله بأذى بذريعة أنّه مضرور ولا أحد سيهتمّ له؛ وتارة يستولي عليه الإحباط الشديد فتصيبه شعرة الجنون الساكن الذي تنعدم فيه الحيلة وتنسدّ فيه الرؤية؛ وتارة يستبدّ بالمرء شعور شديد بالحزن الممزوج بالعجز وضغط الذكريات فترتخي نفسُه من الوجع ويستسلم للحظته ويعيش فيها كيفما اتفق.
والسعيدُ من يرزقه الله لحظات الرضا بين الساعات الثقيلة فينظر إلى كل ما يراه أنه الامتحان العظيم، وأنّ ذلك كله بابٌ ظاهره فيه العذاب، وباطنه فيه الرحمة، وأن مفتاحه هو في الثبات والتماسُك والصبر على أقدار الله بالرضا.
ومن آثار السكينة في قلوبهم أنّ الله يرزقهم تدبّراً عجيباً في آياته، فتنفتح لهم المعاني الكامنة في مرايا الآيات التي تنتظر من الأحداث ما يجلو صورتها في نفوس الصادقين الرائين المتدبرين.
ومن أثر ذلك أن يرزقك الله كلماتٍ تخفف فيها عمّن حولك، وتُحسن عزاءهم، وتَجْبر خواطرهم، فتراهم يفهمون منك، ويتقبّلون كلماتك، ويستأنسون بوَقْعها.
وإنني أحسب أن الله يصطفي من الثابتين في هذا البلاء أولياءه، فإذا اتّخذهم أولياءه كان معهم، ومَن عادَى لله وليّاً فقد آذَن اللهَ تعالى بالحرب، فانظر كيف سينجو مَن عاداه الله!
فيا أيها الناس، انظروا إلى الثابتين الصالحين منكم، فلعلّهم أولياء الله، فكونوا بإزائهم!